نساء مسلمات

امرأة في الظل ... (هند بنت عتبة)

1 يناير 1970 02:06 م
قالت وهي تذكر أيامها الماضية: «لقد كنت أرى في النوم أني في الشمس أبدًا قائمة، والظل مني قريب لا أقدر عليه، فلما أسلمتُ رأيت كأني دخلت الظل، فالحمد للَّه الذي هدانا للإسلام». بهذه الكلمات الطيبة أرَّخت هند بنت عتبة لحياتها.

لقد أسلمت يوم فتح مكة بعد أن أسلم زوجها أبو سفيان، ويروي ابنها معاوية - رضي اللَّه عنهم- قصة إسلامها، فيقول: سمعتُ أمي هند بنت عتبة، وهي تذْكُرُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتقول: فعلتُ يوم أُحُد ما فعلتُ من الـمُثْـلَة بعمِّه وأصحابه (أي تقطيع جثثهم بعد موتهم). كلما سارت قريش مسيرًا فأنا معها بنفسي، حتى رأيت في النوم ثلاث ليال كأني في ظلمة لا أُبصر سهلا ولا جبلا، وأرى تلك الظلمة قد انفرجت عني بضوء مكانه، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعوني.

ثم رأيت في الليلة الثانية كأني على طريق، فإذا بهُبل (أعظم أصنام قريش)عن يميني يدعوني، وإذا إساف (أحد أصنام قريش، كانت تنحر عنده الذبائح) يدعوني عن يساري، وإذا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين يدي، يقول: «تعالَي، هلمي إلى الطريق».

ثم رأيت في الليلة الثالثة كأني واقفة على شفير جهنم، يريدون أن يدفعوني فيها، وإذا أنا بِهُبل يقول: ادخلي فيها. فالتفتُّ، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ورائي، آخذ بثيابي، فتباعدتُ عن شفير جهنم، وفزعت فقلتُ: هذا شيء قد بُيِّن لي، فعدوتُ إلى صنم في بيتنا، فجعلت أضربه وأقول: طالما كنت منك في غرور! وأتيتُ رسول اللَّه، وأسلمتُ وبايعته.

وقبل أن تذهب هند لتبايع النبي ( أتت زوجها أبا سفيان، وقالت له: إنما أريد أن أتبع محمدًا. فقال: قد رأيتك تكرهين هذا الحديث أمس. قالت: إني واللَّه ما رأيت أن عُبِدَ اللَّه حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، واللَّه إن باتوا إلا مصلين قيامًا وركوعًا وسجودًا. قال: فإنك قد فعلت ما فعلتِ، فاذهبي مع رجل من قومك.

فذهبت إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فذهب معها، واستأذن له النبي ( مع بعض النسوة اللاتي ذهبن إلى رسول اللَّه ( وكان جالسًا على الصَّفا ومعه عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-.

فقال لهن النبي (: «أبايعكن على ألا تشركن باللَّه شيئًا». فرفعتْ هند رأسها، وقالت: واللَّه إنك لتأخذ علينا أمرًا ما رأيتك أخذته على الرجال، وقد أعطيناكه.

فقال النبي (: «ولا تسرقن». فقالت: واللَّه إني لأصبت من مال أبي سفيان هنات (بعض المال القليل)، فما أدرى أيحلُّهنَّ لي أم لا. فقال أبو سفيان: نعم، ما أصبت من شيء فيما مضى فهو لك حلال.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «وإنكِ لهند بنت عتبة؟». قالت: نعم، فاعف عمَّا سلف؛ عفا اللَّه عنك.

قال: «ولا تزنين». قالت: فهل تزني الحُرَّة؟!

ثم قال: «ولا تقتلن أولادكن». قالت: قد ربيناهم صغارًا وقتلتَهم ببدر كبارًا. فتبسم عمر -رضي اللَّه عنه- ضاحكًا من قولها، (ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك من قولها أيضًا. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قتلهم اللَّه يا هند». ثم تلا قوله:(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 17].

ثم قال: «ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن» (والبهتان أن تدخل المرأة ولدًا من غير زوجها، على زوجها، وتقول له: هو منك، وليس منه). قالت: واللَّه إنّ البهتان لشيء قبيح، وما أمرتنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.

قال: «ولا تعصينني في معروف». فقالت: ما جلسنا في هذا المجلس، ونحن نحب أن نعصي اللَّه ورسوله في شيء؟

فأقرّ النساء بما أخذ عليهن، فأمر النبي ( عمر -رضي اللَّه عنه- فبايعهن، واستغـفر لهـن النبي ( على مـا كان مـنـهن قبل ذلك. فذلك قوله: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الممتحنة: 12].

ولما أسلمت هند أرسلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بهدية مع جاريتها، فجاءت تلك الجارية إلى خيمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالأبطح، فسلَّمتْ، واستأذنتْ فأذن لها. فدخلتْ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين نسائه: أم سلمة، وميمونة، ونساء من نساء بني عبد المطلب، فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية وهي معتذرة إليك، وتقول: إن غَنَمَنا اليوم قليلة الوالدة، وكانت الهدية جِدْيَيْنِ مشويين.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «بارك اللَّه لكم في غنمكم، وأكثر ولادتها».

فرجعت إليها خادمتها فأخبرتها بدعاء رسول اللَّه (، فسرَّت هند بذلك، فكانت مولاتها تقول: لقد رأينا من كثرة غنمنا وولادتها ما لم نكن نرى قَبْلُ ولا قريب، فتقول هند: هذا هو دعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبركته.

هذه هي أخلاق هند في إسلامها بعد أن فتح اللَّه قلبها للإيمان من بعد أن أغلقه الكفر، وجمده الشرك، فجعلها تُمثل بسيد الشهداء -حمزة بن عبد المطلب- ثأرًا منه لأنه قتل يوم بدر أباها عتبة وعمها شيبة، وكانا كافرين. إنها جاءت يوم أُحد مع جيش المشركين، وقد نذرتْ لئن قدرت على حمزة لتأكلنّ من كبده، فلما استشهد حمزة -رضي الله عنه- أمسكت بقطعة من كبده، وأخذتْ تمضغها لتأكلها فلم تستطع أن تبتلعها فلفظتها. وسميت لذلك «أكّالة الأكباد».

وقد حاولت هند أن تكفِّر عمّا سبق منها أيام الجاهلية، فاشتركت في الجهاد ضد أعداء اللَّه في موقعة اليرموك، وروَتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها ابنها معاوية، والسيدة عائشة أم المؤمنين.

هذه هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصَي، وأمها صفية بنت أمية بن حارثة بن مرة.

ومن الأحاديث التي روتها، أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبا سفيان شحيح، وإنه لا يعطيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فهل علي في ذلك حرج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» [متفق عليه].