شهادات حيّة لأطباء وناجين من «المحرقة»

دوما... الدنيا كذبة والإنسانية وهم

1 يناير 1970 07:12 م
دوما تغرق بدمها. كأن الحياة انتهت مع المحرقة التي ارتكبها النظام السوري وذهب ضحيتها أكثر من 100 شهيد و300 جريح غالبيتهم من الأطفال الذين يذهبون الى السوق لمساعدة آبائهم في العمل.

مجزرة دوما ارتُكبت على مرأى ومسمع من العالم الصامت والذي يكتفي بإعلان «الصدمة»، فيما أبناء هذه المدينة صامدون وباللحم الحيّ يعدّون قتلاهم بين مجرزة ومجزرة.

استمرّت دوما في لملمة أشلاء شهدائها، انشغلت في دفنهم والسواد لفّ شوارعها وطرقها. ويقول محمد بوكمال: «مَن مات اليوم غالبيتهم نجوا من المجزرة التي وقعت الأسبوع الماضي. هم من الدراويش والمعترين وأصحاب بسطات الخضار والبقدونس والنعنع وبائعي الدخان والسكر المهرّب وباعة الخبز الأسمر والطحين والعتالة الموجودين في سوق الهال وسائقي العربات الذين انسلخت جباههم من الشمس وتعبت ظهورهم من الدفش ونقل البضائع. كلهم ماتوا بالأمس وارتاحوا».

وكتب الطبيب مهند صعب على صفحته على «الفيسبوك»: «بماذا تفكر وأنت تصحو على مناظر الأشلاء وتنام على أنات الثكالى وتقضي نهارك بين دماء ودموع وبكاء، تفكر بأن الدنيا كذبة وأن الإنسانية وهم وأن البشر وحوش ،وأن ما نعايشه كابوس وليس حقيقة، تفكر بأنك عاجز ومقهور ومنكوب، يعني بالله عليك أيها الفيس ماذا تفعل عندما يضعون أمامك 22 من الجرحى في أول دقيقة كلهم يمسك بتلابيب ثوبك الأبيض يترجاك العلاج، تقف بينهم كالأبله، بمن ستبدأ؟ هذا طفل بربيعه الخامس مبتورة يده، شظية في بطنه، جرح غائر في رأسه، هذا فرصته بالنجاة متوسطة، بجانبه شاب بشظية في بطنه ينزف دماً غزيراً يترجاك أن تباشر به ولا تتركه على الأرض بين دماء الجرحى، ويناديك باكياً تركت خمسة من الأطفال صباح اليوم لأحصل لهم كيلو من الشعير أرجوك ساعدني. تقرر لحظتها علاجه وعندما تهمّ بإدخاله تفاجأ بالطفل الأول وقد حضرت أمه ترمقك بنظرة واحدة تغني عن ملايين الكلمات تطرق راسك، تبكي، يصيبك الجنون. تمشي بينهم ترفض عيناك متابعة الفرز فقد رسبت بالمحاولة الأولى. تدخل قاعة العمليات وتقول يا رب لا تحمّلني ما لا طاقة لي به».

طبيب آخر، «أبو باسل» يقول: «عندما وصلت للإسعاف بعد حدوث الضربة بدقائق ومن بين الجموع الغفيرة أوقفني شخص قائلا لا تدخل فالإسعاف لا يحتمل دخول أي شخص غير الجرحى، فيقول له شخص آخر أدخله فهو طبيب. وكم تمنيت لو أنني لم أنزل ولم أر ما رأيت فهناك بحر من الدماء يسبح فيه كل من هو بالداخل من مصابين وأطباء وكادر طبي. طبعاً تصل فيرمقك أصحابك بنظراتهم وكأنك أتيت لتخلّصهم مما هم فيه ،وهم على يقين تام أنك وإياهم أصغر بكثير من هول المصيبة التي حلت. ترى الجرحى الملقون على الأرض أكثر وأخطر بكثير ممن هم على الأسرّة وكل واحد يستجمع ما بقي من قواه ليرفع يده أو يئنّ أو يتألم كي يرسل لك رسالة أنني مصاب ،وأنت ممن اختارك الله لتسعفني أو لتتألم لعدم قدرتك على إسعافي. وفي لحظة واحدة وعندما تدرك أنت وأصحابك أنكم وصلتم لنقطة العجز وقد بلغت القلوب الحناجر يأتيك صوت من الأعلى، صوت تنصت له أنت وأصحابك علّ هذا الصوت فيه ما يهدئ من هذه النفوس: يا جماعة فضوا الإسعاف ضربت الطيارة مرة ثانية وثالثة و... وعاشرة. وتتوافد الإصابات تلو الإصابات ويرتقي الشهداء تلو الشهداء وتفرغ البرادات من الدم وتنفذ الأدوات الجراحية المعقمة وتنتهي أكياس السيروم ،وتعمل أنت وأصحابك وكأن الدنيا قد انتهت»

ويضيف: «الدفاع المدني وثق أكثر من 100 شهيد، أكثر من 100 عائلة فقدت شخصاً واحداً، أكثر من مئة امرأة فقدت إما ابناً او زوجاً او أخاً، أكثر من مئة رجل فقد ابناً او زوجة او اباً او أخاً، غرف العمليات وفيها من الأطباء الذين أعياهم التعب وقد استقبلوا أكثر من 70 عملاً جراحياً كبيراً خلال ساعات قليلة. فقد مرّ عليهم مَن تقطعت أمعاؤه ،ومنهم من بترت ساقاه ومنهم من انفقأت عينه ،ومنهم من حزّ عنقه. اما العناية المشددة والاستشفاء فلا تنتهي محنتها بهذه البساطة فهؤ?ء الجرحى إن أمضوا ساعات في الإسعاف والعمليات فإن إقامتهم بالعناية او الاستشفاء مديدة من أيام لأسابيع».