أحرف وكلمات / ذاكرة الجلود

1 يناير 1970 09:55 ص
إننا اليوم بصدد التحدث عن تحفة كونية بارعة الصنع في هذا الكون الواسع، المليء بالمعجزات اللامتناهية، والتي يعجز عنها العقل الإنساني فهي مازالت في دائرة المخلوقات العالية التقنية القادرة علي الاختراعات والتكنولوجيا الحديثة والتي مازالت في طور الزيادة الطردية بعمليات فائقة مع مر السنين، لتكون مع كل هذا عاجزة أمام المعجزات الكونية وليزيد العلماء خشية وتضرعاً إلى الله تعالى أمام الإعجازات الإلهية كما قال رب الخلق في آياته: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).

وسيكون حديثنا عن الجسد الإنساني، الذي يشبه عالما متكاملا ومنظومة خاصة شديدة التقنية والتعقيد والإعجاز الفريد في هذا الكون الرهيب، ومازالت البشرية حتى هذه اللحظة تحاول فك رموز لا منتاهية في هذه المنظومة الربانية.

فقبل سنوات أدرت بعض القنوات الفضائية بالصدفة ليكون لي نصيب أن أشاهد قصة امرأة قامت بعملية شد الوجه وكانت تبكي بحرقة شديدة، وخلال اللقاء التلفزيوني أوضحت انها بعد العملية الجراحية- التي تكللت بالنجاح على حسب تشخيص الأطباء- شعرت بآلام شديدة في بعض عضلات وجهها وجسدها وبفقدان جزء من ذاكرتها واغلب الأطباء- على حسب ما أشارت- إنهم اتهموها بالكذب، فالعملية ناجحة بنسبة كبيرة وإن هذه الأعراض التي تعاني منها ماهي إلا درب من دروب الوساوس والجنون... المهم بعد انتهاء البرنامج لم ينته تفكيري في هذه المرأة الأجنبية، وكنت مقتنعة إنها فعلاً تشعر بآلام شديدة وانها فعلاً فقدت جزءاً من ذاكرتها، وانها فعلاً فقدت قدرتها على المحاورة لافتقادها القدرة على ذلك نتيجة الخلل بالذاكرة، وانها لجأت بعد محاولات مستميتة إلى الإعلام لإيصال ما تشعر به إلى الجمهور العام وإلى المسؤولين للوصول لحل لمأساتها فقد كانت في الحوار التلفزيوني شديدة العصبية فالحالة التي هي فيها حالة حرجة تثير الاستياء لهذه المعاملة القاسية فللأسف مهنة الطب أصبحت عند البعض مهنة تجارية بعيدة كل البعد عن الإنسانية والتي تعتبر أساس من يمتهنها.

المهم... بعد الانتهاء من البرنامج التلفزيوني لم تختف هذه المرأة عن مخيلتي، وبدأت أفكر في وضعها ولماذا وصلت إلى هذه المرحلة؟!

آلام شديدة وفقدان ذاكرة... إن الإجابة على أمر هذه المرأة يسير وواضح في الإعجاز القرآني الذي يؤكد ان الجلود تكون ذاكرة لها القدرة على استرجاع المعلومات والمواقف والصور... الخ، والدليل القرآني يوضح ذلك «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»، فالجلود في هذه الآية القرآنية ببليغ الإعجاز ناطقة في يوم الحساب مدركة لكل شيء لأنها تمتلك ذاكرة والمرأة التي قامت بعملية التجميل فقدت جزءاً من جلدها أثناء الخياطة التجميلية، لذا هي فقدت جزءاً من ذاكرتها، فالجلد البشري-هذا الشرشف العظيم- له من ذاكرة فصيحة حتى يوم البعث، فالتعبيرات الجلدية اللحظية تكشف ما يجول بخاطر الإنسان، ومع مر الزمان تكتمل الكتابات والأعمال علي هذه الجلود البشرية. فمضمون قول أمير المؤمنين:«مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاَّظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ»، فالإنسان مهما ملك القدرة على المراوغة والرياء، ففلتات اللسان تكشف وتطبع على صفحات الوجه لتكاشف عن حقيقة الإنسان وقد شبه رب العالمين بعض أمثال البشر كالأنعام:«أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً»( الفرقان:44).وهنا في هذه الآية الشريفة أتت العمومية بالنسبة للأنعام، والدليل على ذلك وجود فئات عديدة جداً من البشر غير المدركين... فهم لا يستمعون ولا يعقلون، فهناك فئة الإنسان اليقظ بما له من مدركات عالية جداً، وهو واضح من الداخل والخارج وهذا بلاشك تنعكس أفعاله على جلده، فتراه يشع نوراً ووقاراً، وهناك فئة من البشر يمتلكون ألوانا متباينة من الجلود، ولكن سبحان الله البريق النوراني الرباني يشع من جلودهم، أما الفئة الثانية، فهي فئة الممثل اليقظ، فهو ممثل من الخارج على من حوله ويوهم الآخرين بحسن أخلاقه وعفته، ولكن له من العفونة الداخلية، التي لا يدركها إلا رب العالمين، فملامحه شديدة القساوة مع مرور الزمن، ومنهم تبقى الجلود في منتهى البراءة والعفة، ولكن مع مر الزمن تتبدل هذه الخطوط المنسوجة على الجلود لتبدوا قاسية، أما الفئة الثالثة وهي فئة الممثل الضال، فهو الذي يتجه إلى إيهام الآخرين ونفسه أيضاً ووصوله إلى حالة أشبه بالموت الإكلينيكي، فهو في سبات مع الظلم، فالشعور منعدم والبلاءات تسقط عليه لإنعاشه من حالة ظلم النفس والآخرين، ولكن ما من مجيب، لأن الإيهام الداخلي قدم له الأكذوبة على طبق من ذهب وفراش من حرير بأنه مظلوم، ولذلك تسقط عليه البلاءات الربانية لإنعاشه، لذا يصدر الجسد استنفاراً لعفونة النفس ليلتصق مع هذا الجلد المستبد ليبدل لونه إلى جلد مظلم مخنوق، والذي لا يقل عن اللحوم المخنوقة المعلقة في بعض المطاعم غير الإسلامية، وهذا ماينطبق عليه المثل المتداول:«مايملي عينه إلا التراب»... فهذه الفئات الفاسدة وجودها على هذه الدنيا لحكمة بليغة تخاطب العقول البشرية. فرب العالمين لا يكلمهم يوم القيامة، فهم حتماً في النار أما الفئة الرابعة فهي الفئة الانتقالية من فئة ممثل يقظ إلى فئة ممثل ضال، وهنا ينتقل إلى مرحلة الموت الإكلينيكي وسبات الظلم وهكذا... هذه كانت مجرد فئات معينة لبني البشر، طبعت أعمالها على جلودها، فهي لا تحتاج إلا لمتصفح بارع، ففراسة المؤمن لا تخطئ عن كشف ماتخفيه الجلود.

* كاتبة وأخصائية نفسية كويتية