عون يخوض ضد قهوجي معركة رئاسية بوجه عسكري

الجيش و«القصر» في لبنان... عشق الضباط للقب الفخامة

1 يناير 1970 01:52 م
علاقة قائد الجيش مع كرسي الرئاسة اللبنانية تكاد تكون فريدة من نوعها، لا مثيل لها حتى في بعض دول العالم العربي التي وصل فيها ضباط إلى مركز رئاسة الجمهورية.

لم يصل أي قائد للجيش على ظهر دبابة إلى الحكم في لبنان، ولا أوصله انقلاب عسكري إلى القصر الرئاسي. ولا وجه للشَبه بين تجربة لبنان مع العسكر وبين ما حصل في مصر أو سورية أو حتى الأردن. إذ لم يشهد تاريخ لبنان إلا انقلابين، واحد جدّي نفذه الحزب السوري القومي الاجتماعي ضد حكم الرئيس الجنرال فؤاد شهاب بواسطة ضباط في الجيش ليلة رأس السنة العام 1961 وآخر نفذه اللواء عزيز الأحدب العام 1976 لإجبار الرئيس سليمان فرنجية على ترك الحكم، لكنه أُخمد في مهده. التجربة الأولى انتهت باعتقال الضباط الانقلابيين وزجهم في السجون والثاني طواه التاريخ والأحداث المتتالية في حرب لبنان الطويلة. لكن علاقة الضباط بالحكم والرئاسة لم تنته.

اليوم يخوض رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» النائب العماد ميشال عون معركة من داخل الحكومة التي يشارك فيها ومن خارجها، من أجل تعيين قائد جديد للجيش خلفاً للقائد الحالي العماد جان قهوجي.

لا تدخل المعركة الحالية في إطار عسكري يقتصر على تعيين قائد جديد للجيش، ولا يمكن حصرها تحديداً بالإتيان بصهر الجنرال عون أي العميد شامل روكز قائداً للجيش. فالخلفيات العونية أبعد من ذلك. إذ في صورة المعركة السياسية شبَح كرسي الرئاسة الفارغ منذ أكثر من عام، ذلك أن عون الآتي أيضاً من قيادة الجيش إلى قصر بعبدا رئيساً للحكومة الانتقالية في نهاية الثمانينات، يخوض حالياً آخر معاركه الرئاسية. ويمثّل العماد قهوجي بالنسبة إليه أحد العقبات الرئيسية، بعدما ظلّ لأشهر طويلة متقدماً السباق الرئاسي، وأحد المرشحين الأساسيين لرئاسة الجمهورية.

معركة عون الحالية معركة رئاسية بوجه عسكري. لأن «الجنرال» يدرك أهمية موقع قيادة الجيش في الحالة السياسية اللبنانية العامة، وهو الذي اختبر علاقة الجيش بالحكم ليس من خلال تجربة الرئيس اللواء فؤاد شهاب فحسب، بل من خلال تجربته الخاصة منذ أن كان ملازماً ومقرّباً من فريق الرئيس الراحل بشير الجميل الذي أحاط نفسه بمجموعة من ضباط الجيش في تلك المرحلة.

وقد مثّلت تجربة شهاب عند تسلُّمه الرئاسة خلَفاً للرئيس كميل شمعون بعد انتهاء أحداث 1958، أول وأبرز تجربة عسكرية في الجيش وفي الرئاسة والإدارة اللبنانية. لكن بقدر ما شكل وجود الأمير الشهابي بارقة أمل بالنسبة إلى اللبنانيين الذين رأوا فيه إدارة الكف النظيف ومؤسس الإدارة من خلال تشريعات وقيام مؤسسات اجتماعية فاعلة، فقد سحَب «المكتب الثاني» (المخابرات) بكل أساليبه المعلنة والسرية وهج الرئاسة الأولى وعطّل بما ارتكبه مفاعيل إنجازات العهد الشهابي.

كانت تجربة شهاب في الجيش حالة استثنائية، لا تزال حتى اليوم يُضرب بها المثل، لأنها أسست لأول حالة من نوعها في قيادة الجيش، سعى هو أو بالاحرى بعض المحيطين به لنقلها إلى القصر الرئاسي، محاولين إدارة الحكم الديموقراطي بأساليب عسكرية. ففشلوا وارتدّ الفشل عليهم حتى بعد انتهاء عهد شهاب.

إلا أن ممارسات «المكتب الثاني» والتضييق على الشهابيين ورجال العهد السابق وزعمائه، في عهديْ الرئيسين شارل حلو وسليمان فرنجية، أدت إلى محاولة تطويق حكم العسكر لاحقاً والضغط كي يبقى الجيش بعيداً عن اللعبة السياسية. لكن لبنان الصغير لا يحتمل كثيراً هذا الفصل بين مجتمعيْن (السياسي والعسكري)، ولا سيما أن لكل ضابط مرجعية سياسية.

وقد شاءت حرب العام 1975 أن تترك ندوبها في الجيش بعد انقسامه للمرة الأولى في تاريخه. حينها كرّست المرجعيات السياسية أبوّتها لضباط في الجيش، فصار هؤلاء متعاونين مع هذا الفريق أو ذاك من الأفرقاء الذين أداروا لعبة الحرب والسلم في لبنان.

لا يمكن التقليل من أهمية بروز أسماء ضباط في تلك المرحلة طبعوا الحياة السياسية سواء من خلال المفاوضات الداخلية لوقف إطلاق النار أو ترؤس جبهات أساسية في المعارك على خطوط التماس، أو حتى في قيادة المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية بعد العام 1982. ولا ينكر أحد أهمية بروز اسم الضابط «الشهابي» سامي الخطيب كقائد لقوات الردع العربية وهو الذي أصبح نائباً ووزيراً في المرحلة التي تلت توقيع اتفاق الطائف، إضافة إلى مجموعة من الضباط كانوا قريبين من أحزاب سياسية فاعلة.

ظل ارتباط العسكر بالسياسة في لبنان ارتباطاً وثيقاً، وشهدت البلاد في صورة مضطردة بروز أسماء ضباط متقاعدين كمرشحين للنيابة مع كل موسم انتخابي وبينهم مَن أصبح نائبا كالعميد شامل موزايا والعميد إدغار معلوف عن «التيار الوطني الحر» (يقوده عون)، إضافة إلى أن عدداً من الضباط أصبحوا وزراء وآخرهم وزير الداخلية السابق مروان شربل والوزير الحالي اللواء أشرف ريفي.

لكن تبقى علاقة القصر الجمهوري بالضباط علاقة مميزة، ولا سيما في أوساط الضباط الموارنة.

حين خرج العماد ميشال عون من اليرزة إلى قصر بعبدا رئيسا للحكومة الانتقالية (العام 1988)، استعاد الجيش دوره في الحياة السياسية بعد عقود من التطويق أو حتى أحياناً التهميش للضباط الأكثر تقدماً بين الموارنة، ومرّ الجيش بسنوات كان ممنوعاً عليه التدخل بالسياسة. لكن «فيروس» السياسة ظل مشتعلاً، يذكيه ألق السنوات الماضية ووهج الشهابية التي كانت تطلّ بين حين وآخر لتذكّر الضباط بعصر ذهبي بائد.

وشكل دخول عون إلى القصر الرئاسي، رغم الانقسامات الحادة التي طبعت الحياة السياسية آنذاك ولا سيما في ظل حكومة الرئيس سليم الحص، توهجاً في أوساط الجيش ضباطاً وجنوداً. وقد استعاد عون تجربة شهاب وأسس لحالة في الجيش ظلت إلى ما بعد خروجه من بعبدا ومن ثم إلى منفاه الإجباري في فرنسا، موجودة بقوة في صفوف المؤسسة العسكرية التي أعاد الرئيس إميل لحود توحيدها بعد العام 1990.

وشابت تلك المرحلة «تصفية حسابات» بين النظام السوري وبعض ضباط الجيش الذين كانوا محسوبين على عون الذي كان خاض «حرب التحرير» بوجه سورية وجيشها في لبنان (العام 1989)، إلا أن لحود عاد واستوعب عدداً من الضباط الذين شكلوا في ذلك الوقت رأس حربة في إعادة توحيد الجيش وتعزيزه تحت رعاية سورية.

لم يكن لحود قائداً للجيش في فترة عادية، بل كان الجيش ينهض من ركام التقسيم والشرذمة وتصفية الحالة العونية فيه وبدء علاقة سوية مع الجيش السوري. وظل لحود قائداً للجيش في ولاية الرئيس إلياس الهراوي الأصلية والممددة أي تسع سنوات، كانت كافية كي يصبح الضابط الماروني الأول في زمن الطائف مرشحاً لرئاسة الجمهورية.

وقد بنى لحود علاقة ثقة بالجيش السوري وبالقيادة السياسية السورية، جعلت من السهل عليه أن يصبح مرشحاً طبيعياً لخلافة الهراوي، بعدما أيقن نظام الرئيس السوري حافظ الأسد عمق ولائء له. وجاء لحود الماروني من بعبدات سليل عائلة قدمت سياسيين وضباطاً إلى الجيش ومنهم والده اللواء والنائب جميل لحود. لكن حلم الوصول إلى قصر بعبدا أتى على طبق من فضة قدّمته إليه السلطات السورية، فانتقل قائد الجيش من اليرزة إلى قصر بعبدا، وأعاد في بداية عهده كرئيسٍ دوراً أساسياً للجيش وأحاط نفسه بمستشارين من اليرزة وبضباط من كافة الاتجاهات لم يكن يثق إلا بهم.

واستعاد الجيش مع لحود مجدداً حلم إحياء مرحلة تورط المؤسسة العسكرية مباشرة بالسياسة. لكن الجنوح والمتغيرات والتدخل السوري في كل شاردة وواردة، ترك أثره في الجيش المتخبط بين دورات تدريبية في سورية وبين عقيدة المقاومة وبين العلاقة مع الأميركيين الذين بدأوا بتزويده السلاح.

ومع انتقال لحود إلى بعبدا عيّنت الحكومة العماد ميشال سليمان قائداً للجيش الذي عرف في عهده مراحل قاسية سواء لجهة الاعتداءات الإسرائيلية أو داخلياً ولا سيما على صعيد العلاقة مع التنظيمات الأصولية ومع «حزب الله» و«تيار المستقبل»، وصولاً إلى مرحلة التظاهرات التي عمت بيروت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تلك الموالية لسورية أو المعارِضة لها.

ولم يترك سليمان، الآتي من عمشيت في جبل لبنان، بصمات واضحة في الجيش رغم بقائه فيه أكثر من تسع سنوات، لكنه عرف كيف يبقي نفسه بعيداً عن دائرة الاستهداف وقريباً من مراكز القرار السورية والعربية ولا سيما المصرية التي لعبت دوراً في إيصاله إلى بعبدا بعد انتهاء ولاية لحود والفراغ الرئاسي الذي أعقب خروجه من بعبدا.

ومع انتخاب سليمان وفق تسوية الدوحة في مايو 2008، تخلى عون عن رئاسة الجمهورية، وحلّ العماد جان قهوجي قائداً للجيش من دون أن يحظى في بداية عهده بتغطية سياسية شاملة إذ إنه لم يأت بإجماع حكومي. وصعد نجم قهوجي في الجيش تدريجياً، واستفاد من وجود رئيس للجمهورية وتطبيع الوضع الداخلي ليخطو خطوات واثقة في الجيش مكّنته تدريجياً من الحفاظ على موقعه متقدماً في ظل رئاسة سليمان. ولعب الحظ إلى جانبه حين احتاج «حزب الله» قبل عامين إلى التمديد له وعدم اختيار قائد جديد للجيش رغم ممانعة حليفه عون الذي بدأ يستشعر بخطر وجود قائد للجيش على لائحة الأوائل في استطلاعات الرأي المعدة للرئاسة. وهكذا صار اسم قهوجي الذي تفاوتت الحملات ضده، متقدماً في الرئاسة، وهو كان يحظى تارة بتغطية من «حزب الله» والرئيس نبيه بري فيما تثور ثائرة تيار «المستقبل» ضده، وتارة أخرى تنقلب الأدوار فيؤيده «المستقبل» كما يحصل حالياً.

وخشي عون أن تتكرر تجربة الإتيان بقائد للجيش رئيساً للجمهورية بعد لحود وسليمان. ولم تكن تلك خشية زعيم «التيار الحر» وحده. إذ برز خوف لدى الوسط السياسي الماروني من أن تصبح القاعدة هي تقدم الضباط الموارنة إلى سدة الرئاسة، فتنعدم بذلك حظوظ السياسيين من الطائفة. أما خوف القوى السياسية الأخرى فهو من تكرار تجربة وصول العسكر إلى الحكم كما عبّر أكثر من مرة النائب وليد جنبلاط.

ومنذ أن فتح عون معركة ضد التمديد لقائد الجيش الحالي، اتهمه خصومه بأنه يحاول الإمساك مجدداً بقيادة الجيش وهو الذي لم ينفكّ يوماً يؤكد استمرار تأثيره بها وخلق حالة خاصة لم تتراجع قدرتها يوماً. لكن عون الذي يصرّ يوماً بعد آخر على الذهاب بمعركته الحكومية حتى النهاية، يريد إيصال مَن يعتبره مؤهلاً لقيادة الجيش أي صهره العميد شامل روكز الذي يشيد بأدائه غالبية الضباط والسياسيين، لكنه أيضاً يريد إبعاد قهوجي عن السباق الرئاسي. فتطيير قهوجي من قيادة الجيش سيبقيه حتماً خارج لائحة المتنافسين الأوائل لأن قيادة الجيش هي التي تعطي الشخص الذي يشغلها الأهمية الدولية والإقليمية، على غرار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أحد المرشحين الجديين أيضاً لرئاسة الجمهورية.

بين اليرزة وبعبدا جغرافيا كيلومترات قليلة، تغري ساكني قيادة الجيش بالانتقال إلى القصر الرئاسي. والأكيد أن أربعة ضباط سكنوا قصر بعبدا، ثلاثة منهم رؤساء والرابع أي عون رئيساً لحكومة عسكرية انتقالية، لكنه لن يسمح اليوم بأن يأتي إلى بعبدا ضابط رابع ليسكنه رئيساً، والسبيل إلى ذلك منع التمديد له.