البحث عن رؤية أخرى لواقع الرواية (3 من 3)
نقد / الدلالات والبنية السردية ... في «فئران أمي حصة» لسعود السنعوسي
| سعاد العنزي* |
1 يناير 1970
02:29 م
البنية الفنية:
قسمت الرواية على جزأين، الجزء الأول، رواية «نار الثأر»، وهو الجزء السردي الكبير المسيطر على 90 في المئة من السرد، بسرد متساوق بدأت فيه الحكاية مع الزمن السردي، يعرض في أربعة أجزاء مقسمة على أربعة فئران: شرر، لظى، جمر، ورماد. يسردها سارد واحد عبر ضمير المخاطب، وضمير المتكلم. برأيي، إن تقسيم الفأر الأول الثاني الثالث الرابع، يستدعي بالضرورة وجود أربعة ساردين مختلفين، ولكن السرد مقدم عبر سارد واحد، ما يعني أن العناوين الفرعية تحتاج إلى أن تسمى على فأر واحد السارد، ويكون كل فصل يعرض لما فعله الفأر السارد، وإلا فإنه يقدم الحكاية عبر أربعة رواة. وبما أن العنوان «فئران أمي حصة»، فإن توظيف الرواية يكون على شكل إن كل فأر يسرد كيف كان مساعدا لانتشار هذا الطاعون المستدعى في النص، فتقسيمة الفئران لم تكن موفقة برأيي، لأنها تستدعي توافقا بين الشكل والمضمون، لا سيما أن عنوان الرواية، وهو من نمط العنوان المكون، يتعالق مع قصة سهيل والمسلسل الكويتي «على الدنيا السلام»، بشخصية فؤادة التي تحذر الناس من الطاعون وهي ترتبط بحكاية الجدة، ومايحدث الآن في كويت 2020 م، من سرد مستقبلي مما يستوجب معالجة أدق لهذه النقطة. لذا لم ألحظ سوى اعتباطية في الربط بين عنوان الحكاية، وشكلها ومضمونها حاول المؤلف أن ينجو منها من دون فائدة.
والجزء الثاني يحدث الآن: وهو مقسم على 12 ساعة في يوم واحد، يرصد ليوم من أيام الكويت في عام 2020 م، عنونه الكاتب بـ «يحدث الآن» أخذ صيغة الفعل المضارع، لإعطاء الزمن واقعية كبيرة، وهو الجزء الذي لم يحظ ببلاغة الإيضاح ومُلئ بالغموض، وغارق في المشهدية السوداوية، ختمها بتراجيدية سوداء.
اللغة بين المجازي والعادي...
اللغة المستخدمة في الرواية هي لغة تعتمد على الوصف السردي في كثير منها، مما يقارب مجازيا الواقع، من منطلق أن المجاز ينظر له كوسيلة لإعادة الحياة في المعنى الأدبي والنقاشي منذ ان ينظر للأفكار القديمة بنظرة جديدة. وهذه واحدة من أكثر المفاهيم النقدية معاصرة هو الفهم المعرفي للمجاز الخاص بفهم كل من (Lakoff and Johnson 1980 ) اللذين أضافا بعدا مفاهيميا للنظرات التي نوقشت مبكرا حول المجاز. بكل بساطة، هما يناقشان فكرة إنه منذ أن كانت بنية مفاهيمنا هي ما نفهمه ، إذاً نظامنا المفاهيمي يلعب دورا مركزيا في تحديد واقعنا اليومي. و منذ أن نظامنا المفاهيمي هو بشكل كبير مجازي، إذاً الطريقة التي نفكر فيها ونعيش تجاربنا بها، وماذا نفعله كل يوم بشكل كبير هو مجاز. وهذا ما أقصده بالمجاز المستخدم في الرواية، نقل وتمثيل الواقع في عالم النص.
إلا أن لغة الرواية تعتمد على الدلالات التقريرية والمباشرة أكثر من الإيحائية، واللغة البلاغية الأدبية الجمالية. فالجمال في الرواية هو جمال فكري، وليس احتفاء في الجمال اللغوي، وهذه بلاغة جديدة يتبناها النص السردي الحديث. و رغم عدم اعتراضي عليها، هذا لا يمنع أن أسجل تحفظي عليها، فمعادلة الأدب سهلة وممتنعة في نفس الوقت، جمال الشكل والمضمون لا أن تطغى كفة على أخرى، فاللغة الجميلة هي التي تربطنا مع عالم النص أكثر، واللغة المجازية كما يقول هاملتون: (المجاز يقدم أكثر المعاني المنتجة لنقل النقاشات الاقناعية وغير المنسية).(Hamilton) وهي التي تجعل من المؤلف ينطلق من القول العادي إلى القول غير المألوف يؤثر في المتلقي، ويهمس متأثرا كيف أتى المؤلف بهذا التعبير والمجاز؟ وماهي الطاقة التعبيرية عنده، وماهو معجمه اللغوي، وثقافته، وقدرته الخيالية على نسج هذا الأسلوب؟!
التكثيف، والتصوير المجازي، وغيرها من التقنيات الفنية أمور تتأتى من خلال موهبة أولا وتدريب للخيال ثانيا والصبر والتأني والعمل الدؤوب ثالثا، وإلا كان ارتياد الأدب أمرا سهلا جدا.
بالنظر إلى قضية التكثيف اللغوي والاستخدام المجازي، لم أجد أن السنعوسي قدم شيئا يذكر في هذا العمل، ومن الطريف أن ما يتم تداوله بين القراء في تويتر/ الفيس بوك/ وبقية المواقع من مقاطع من الرواية أمر عادي جدا، ولا فيه ما يلفت للنظر، سوى القيمة الفكرية له:
«هم يرتكبون خطأ... وهو يكتب عن الخطأ، وآخرون يلومونه على الكتابة».
و»اكتشفت أن المصائب إن أقبلت... أقبلتْ تمسك إحداها بيد الأخرى.. إلى حدِّ تجهل فيه علام تبكي».
أيضا من الواضح أنه لم يكن محتاطا للدلالة المعجمية لبعض الكلمات، مثل قوله: «تجليات الحرب»، فالتجليات تعني ظهور الجماليات، ولكن لم يتضح هذا في سياق الرواية، وكان يقصد آثار الحرب.
لذا أقول إن لغة الرواية قد تروق للقارئ العادي، القارئ غير المثقف، القارئ البسيط في مخزونه اللغوي، لأن اللغة الأدبية المفترضة هي عالم من المتعة التي تربط الفكرة العميقة بالمفردة والصورة الفريدة المعبرة بلغة متعالية على اليومي.
وهذا يقودنا إلى الحبكة البطيئة التي تعتمد على الوصف السردي الطويل الممل، وهو تمثيل لصور الذاكرة مجازيا، ونقلها لعيني القارئ، لكن كثرتها والاسترسال فيها أمر ممل أفقد القارئ خيط المتعة السردية. التشويق مهم جدا في العمل الأدبي من دونه يصبح السرد ثقيل الظل، فسرد من دون تشويق يقتل الرغبة في قراءة العمل الأدبي. أول خمس صفحات من العمل لابد أن تشوق المتلقي، تثير فيه رغبة إكمال العمل، وبقية العمل أيضا تجعله لا يريد لهذه المتعة السردية أن تنتهي، وبعد أن تنتهي يشعر بحنين للنص، ولأبطاله، ولكن هذا ما لم يحدث في نص السنعوسي، خصوصا في أول مئتي صفحة قتل السرد المتعة فيها بالدخول في التفصيل السردي. فكان المؤلف أشبه بمقاوم لتقاليد كتابة الرواية كما يقول ادوارد سعيد في كتابه «بدايات» إن الأدباء لديهم رغبة في مقاومة الأسس النقدية، وهذا ما أجد السنعوسي وغيره من المبدعين العرب يهربون منه، ربما لرغبة في حكي المزيد مما تمتلئ به ذاكرتهم على حساب فنيات السرد.
من قرأ الرواية قرأها لأن كاتبها هو فائز بجائزة البوكر العالمية، وأنا شخصيا أكملتها لأعرف حكاية سردها وتكوينها وتشكلها، كما أعلم أن هناك من قرأها متشوقا لتعقب مراحل تطور أو إخفاق مؤلفها. مع اعترافي بأنها رواية تعجب القارئ العادي والأقل من عادي، والقارئ السياسي والأيديولوجي، كما تعجب الناشر الذي يريد أن يتربح من اسم كاتبها، ولكنها حتما لن تكون أثيرة عند القارئ الخبير المتخصص في الرواية، والذي لديه مخزون سردي هائل من أعمال إبداعية لامست الروح والقلب والفكر.
* ناقدة وكاتبة كويتية
ـ سعود السنعوسي، رواية «فئران أمي حصة»، الدار العربية للعلوم ناشرون، ضفاف، الطبعة الثالثة 2015م.