الأمن «خنق» وسط العاصمة اللبنانية... و208 مطاعم «استسلمت» لـ«الفراغ»
قلب بيروت ... «يحتضر»
| بيروت - من آمنة منصور |
1 يناير 1970
12:19 م
• قباني لـ «الراي»: مؤتمَنون على حلم الرئيس رفيق الحريري وسنعمل على إحيائه
• لم يعد يتبقى في الشوارع غير الحمائم الأليفة التي تهبط لـ«تتمشى» على رسلها بعدما غابت الأقدام التي كانت تزاحمها
• اعتصام قوى 8 مارس «القياسي» الذي استمر عامين جاء ليقطع «الأوكسجين» عما تبقى من مقاهٍ ومطاعم ومتاجر «نجت»
يتساوى ليل وسط بيروت ونهاره منذ فترة. يتوازيان في معدّلات الصمت والهجران ودرجة «الاحتضار». فـ«الداون تاون»، كما يسميه غالبية اللبنانيين، لم يعد عنوان الصباحات الهادئة ولا الأمسيات الصاخبة، التي تطول ساعاتها وتحلو أوقاتها بالرقص والسهر.
بعضٌ من تأويلات الحال هو أن للفراغ الرئاسي امتداده إلى المؤسسات السياحية في «قلب بيروت» وتوغّله في «شرايينه» وأزقّته. فعلى هيئة شوارع مقفرة وواجهات خالية يظهر الفراغ «التجاري» مذيّلاً بعبارة «للإيجار» تستدعي الاستثمار على رجاء الازدهار.
وحدها الطيور البيضاء والرمادية حاضرة دائماً في «ساحة النجمة»، لا تنكث وعداً أو تخلف موعداً مع الساعة الحجرية الموازية لمقر البرلمان اللبناني. الحمائم الأليفة، التي تزرع الأرض جيئة وذهاباً لتقطف «حَباً» هو قوتها اليومي، تخفق جانحين ثم تهبط لـ«تتمشى» على رسلها، بعدما غابت الأقدام التي كانت تزاحمها واختفت الدراجات الهوائية التي لطالما شقّت الجموع ورسمت على الشوارع «أقواس» قزح اللهو والمرح.
«انقطاع الرِجل» عن وسط المدينة، يقتصر بظاهره على محيط البرلمان، علماً أن تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري «طوّق» الأسواق في كل لبنان و«ضيّق الخناق» على غالبية الاستثمارات.
لكن يبقى أن هذا الجزء «الإستراتيجي» من «سوليدير»، تحدّه شمالاً عوائق الإسمنت التي حصّن بها مبنى الإسكوا التابع للأمم المتحدة نفسه قاطعاً من خلالها الطريق على السيارات والمخاطر الأمنية. ومن الغرب البرلمان اللبناني، وجلساته المتكررة لانتخاب رئيس منذ نحو عام، والتي تستوجب منذ ذلك الحين إقفالاً شبه تام للمنافذ والطرق المؤدية إلى مجلس النواب، وتفتيشاً دقيقاً للمارة، وقد «غُرست» لهذه الغاية العوائق الإسمنتية والحديدية، حتى أن عدد القوى الأمنية تضاعف، إلى حد أن عددها في «الوسط» فاق عدد زوار المكان ورواده الذين ما عادوا يريدون زيارته تحاشياً للتفتيش ولأي «سين جيم».
«ما زاد الطينة بلة» بحسب عاملة في متجر صغير رفضت الكشف عن اسمها أو حتى ذكر نوع بضاعتها كونها الوحيدة المتبقية في هذا «الكار» في وسط بيروت،«هو اعتصام أهالي العسكريين المخطوفين على يد (داعش) و(جبهة النصرة) في رياض الصلح.
فرغم أحقية المطالب التي يرفعها آباء وأمهات تنزف قلوبهم ألماً على أبنائهم وترتعد خوفاً على مصائرهم، إلا أن هذا الاعتصام جاء ليقطع (الأوكسجين) عما تبقى من مقاهٍ ومطاعم ومتاجر(نجت) من اعتصام قوى 8 مارس (القياسي) الذي استمرّ من ديسمبر 2006 حتى مايو 2008 بوجه فريق 14 مارس وحكومة رئيس الوزراء آنذاك فؤاد السنيورة».
ففي ذلك الحين أطبقت خيم الاعتصام على صدر وسط بيروت وخنقت عدداً كبيراً من مطاعمه وأماكن السهر والفرح فيه. ورغم إزالتها بعد اتفاق الدوحة، الذي حلّ «موضعياً» الأزمة السياسية التي كانت قائمة، إلا أن الحياة لم تتلمس طريقها مجدداً إلى تلك المؤسسات التي أقفلت، وبقيت ذكرى في نفوس مَن استقطبتهم على مر الأعوام.
و«عدوى» الإقفال لم تنفكّ «تنخر» قلب العاصمة لتترك الشوارع المتفرعة عن رياض الصلح مهجورة تماماً، ويخيّم عليها الصمت على مدار اليوم. وقد انقلب «المنطق» على عقبه، اذ باتت «ساعات ذروة» الاحتضار تبدأ في الشوارع عند هبوط الليل، حين يخيّم على المدينة صمت «دامس» وتغرق شوارع «سوليدير» بالعتمة. فالمحال المقفلة مطفأة الأنوار، وإنارة الشارع لا توقظ الأزقة الغارقة في سباتها بعدما تبدد منها «نشاط» المؤسسات السياحية.
ويقول أحد المارة الآسفين على «سبات وسط بيروت بعد حياة»: إن «قلب بيروت الذي (طحنته) أعوام الحرب (بين فكّي) متاريسها قبل أن يقوم من تحت الركام هو اليوم أيضاً مهجورٌ. وإن نفضت حملة إعادة إعمار الوسط التي قادها رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في مطلع تسعينات القرن الماضي عن الـ (داون تاون) أوجاعه وضمدت مبانيه المنكوبة وشوارعه المتشققة. فلا حياة لمن تنادي على أطلال مطاعم أقفلت بعدما أنهكتها الخسارة تلو الأخرى، وأفرغت الظروف ما في جعبة القيمين عليها من تجديد وابتكار لاستقطاب الزبائن. فالطرق تقطعت وشحت السبل، ولا تُسمع لو ناديتَ حياً.. فالزبائن باتوا في خبر كان».
مدير مطعم (كرمنا) علي عبدالواحد، لا يملُّ أو يكلُّ في انتظار زبائنه. هو يستنفر كل طاقم عمله لخدمة الزبائن وتقديم أفضل المأكولات للقادمين كما دائماً. يقف منتظراً، ثم يتنقل في أرجاء المطعم ثم يقف من جديد والانتظار يطول. يقول لـ(الراي): «شلل تام أوقف الحياة في شوارع المدينة، والشارع الذي نحن فيه فرغ من غالبية محلاته ولم يتبقَ سوى (كرمنا) و(la place de l etoile) اللذين تعود ملكيتهما إلى نفس المالكين السعوديين، بالإضافة إلى Grand Café».
ينظر عبدالواحد يمنة ويسرى ويشير بالبنان إلى مقاهٍ ومطاعم «كانت هنا، وهناك وهنالك»، موضحاً بأسى: «قبل نحو شهرين أُقفل مطعم La cita، سكوزي ديو، لبنانيات، لا كوستا، انتر كوت.. وغيرها الكثير.
وضعُ «كرمنا»، الذي يديره، ليس بأفضل حال، كتلك التي عاشها في سنوات عز المدينة، فالخسارة بلغت ستين في المئة «ونحن حرصنا على تقديم العروض، واعتماد التخفيضات، ولجأنا إلى الـ(كارا أوكي)، لتشجيع الزبائن.. لكن دون جدوى»، كما يقول عبدالواحد مشيراً إلى أنه «قبل كل موسم، يخرج علينا من (يبشّرنا) بمعلومات عن تدهور الأوضاع ووقوع الانفجارات»، سائلاً: «كيف سيأتي السائح، ولا سيما الخليجي، وسط هذا التهويل الإعلامي رغم أن الوضع الأمني مستقر تماماً؟».
على بعد أمتار «مقفرة» من «كرمنا»، يتناول عدد من الزبائن اللبنانيين طعامهم في place de l’etoile. هذا المطعم الذي شهد على اللحظات الأخيرة من حياة الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، ويأمل رواده ألا يكونوا هم اليوم يشهدون على آخر «لحظات حياته». فوضع المطعم الراقي لا يشبه ما كان عليه قبل اغتيال الحريري. فحينها كان قلب المدينة المزدحم بالحياة لا يميّز مساءه من نهاره وكانت «الحركة برَكة»، وعلى مدار الساعة في كل ركن وزاوية من «الوسط» الذي أعيد ترميمه ليكون «نقطة وسط» و«همزة وصل» بين اللبنانيين والعرب والأجانب.
أحد عمال المقهى يشكو بدوره لـ«الراي»الوضع، إذ إن عدد الزبائن إلى تراجع والخسائر تطاول place de l’etoile، الذي «يكابر» على ظروفه ليستقبل رواده وينعش وسط المدينة الذي يكتسحه الشلل.
العامل، يعزو حال الوسط إلى الخلافات السياسية، المخاطر الأمنية وتردي الوضع الاقتصادي، لافتاً إلى أن «الخسارة تتراوح بين 60 إلى 70 في المئة، إذ إن إقفال الطرق يلحق الضرر بنا سواء أكان من أجل الاعتصام أو عند عقد جلسات مجلس النواب».
الصورة الدرامية يلوّنها أحد القيمين على مطعم Grand Café بشيء من الأمل، فهو يعتبر أن «الوضع إلى تحسن»، قائلاً: «نحن متفائلون ونأمل خيراً، إذ إننا نتفهم ظروف هذه المنطقة من (الوسط) ففي الأمر لعبة سياسية، أما فرعنا الآخر في المقلب الآخر من (داون تاون) فهو كامل الإشغال بصورة دائمة». وفي رأيه أن الاتفاق السياسي يحرّر وسط بيروت من الحواجز، وينعش قلب المدينة لتدبّ الحياة في مؤسساته.
بدوره نقيب المؤسسات السياحية طوني الرامي، يكشف لـ«الراي» أن «نحو 208 مقاهٍ ومطاعم اقفلت في الـ(داون تاون)، آسفاً لواقع الوسط، الذي يُعدّ وسط كل لبنان».
ويضيف بأسى: «كلنا يذكر ما كان عليه وسط بيروت في العام 2000 فحينها كان ناشطاً وجميلاً، أما اليوم فمشهد شارع المعرض محزنٌ جداً وقد تحوّل إلى صحراء».
الرامي، وإذ يستعرض الظروف التي مرت على «الوسط» بدءاً من قفل الطرق، مروراً بتدهور الوضع، ثم نصب الخيم والدواعي الأمنية، يأمل في «إيجاد معادلة تحفظ الأمن والاقتصاد معاً». والخطة المفترض تطبيقها في رأيه من أجل «نفخ الروح» في وسط بيروت، تقتضي «اعتماد بدلات إيجار مقبولة تؤمن استمرارية المؤسسات السياحية، بالإضافة إلى إقرار إعفاءات ضرائبية للمؤسسات العاملة في الوسط، متمنياً «التوصل يوماً إلى اتفاق مع مصرف لبنان، يتيح للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحصول على قروض تيسيرية تساعدها وتضخّ لها قليلاً من الأوكسجين».
وإزاء ما تقدّم وواقعه الموجع في الشوارع «الثكلى»، أطلق نواب العاصمة حملة وطنية لإنقاذ الوسط التجاري تحت عنوان «حماية تراث رفيق الحريري» في الذكرى العاشرة لاستشهاده، حيث كان لقاؤهم مع رئيس البرلمان نبيه بري من أجل إعادة النظر بالإجراءات الأمنية المتخذة في محيط مجلس النواب.
النائب محمد قباني، الذي يسعى مع زملائه النواب إلى إعادة وسط بيروت إلى «عزّه»،يؤكد لـ «الراي» أن «هذا هو حلم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ونحن مؤتمَنون على حلمه وسنعمل بإذن الله على إحيائه».
ويرى قباني أن الشلل الذي تمدّد واستشرى في «الوسط» له أسباب متعددة «منها ما هو مرتبط بالظرف العام، وفيه ضعف إقبال اللبنانيين والسياحة الخليجية على هذا الجزء من وسط بيروت أي ساحة النجمة باتجاه grand theatre، وهذه المنطقة لطالما كان يقصدها السياح الخليجيون، بالإضافة إلى ضعف الوضع الاقتصادي اللبناني الذي يؤثر على اللبنانيين الذين كانوا بدورهم يقصدون هذه المنطقة أيضاً»، مضيفاً: «بالنسبة للظروف الأخرى الداخلية، فمن جهة هناك الإسكوا التي تقفل الطرق المحيطة بها، وهناك أيضاً أهالي المخطوفين الذين يقفلون طريق رياض الصلح، ثم التدابير الأمنية لمجلس النواب؛ فكل هذه الأسباب جعلت هذه المنطقة من الوسط التجاري ما يشبه مدينة أشباح، الأمر الذي نسعى لمعالجته وإيجاد الحلول له»،لافتاً إلى أن «الأمور ليست بالسهلة، فموضوع (الإسكوا) على سبيل المثال يتطلب معالجة عقلانية وواضحة، إذ ليس من السهل التعاطي مع (الإسكوا) بمنطق يتطلب حلاً سريعاً، ونحن الآن نتواصل معها. كما نتواصل مع وزارة الداخلية ومجلس الوزراء في ما يتعلق بموضوع المخطوفين العسكريين؛ وكل هذه الأمور نبحث فيها بشكل جدي».
وعن إجراءات مجلس النواب، يوضح قباني «أنها خفت نوعاً ما، والسيدات يؤكدن أن أحداً لا يفتشهن على الإطلاق»، مشيراً في المقابل إلى أنه «أثناء جلسات مجلس النواب يُعتمد تشديد كبير في المحيط، وهذا أمر مفهوم».
قباني الذي يُطَمْئن «الإخوة العرب إلى استقرار الوضع في لبنان، يقول: «لا بد أن يعرف أخوتنا العرب أن لبنان هو أحد أكثر الدول العربية أمناً اليوم. هذا أمر يمكنهم أن يروه ويشعروا به من خلال الأخبار، فإذا حصلت بعض الأمور الأمنية على حدود البقاع مع سورية، فهي تكون موْضعية ولا تؤثر على الصورة العامة أبداً. وأجزم أننا حتماً مستقرون أكثر من نصف الدول العربية، ولاسيما العاصمة بيروت».
وأمل قباني أن«يقبل السياح الخليجيون على لبنان، لأنهم يحبون لبنان».
وختم: «بالذات أبناء الكويت يعتبرون لبنان وطنهم الثاني،وهم تملّكوا منازل في عدد من المناطق اللبنانية. ونحن نشجعهم على المجيء مجدداً إلى لبنان».