فاصلة / أُختنا النخلة
1 يناير 1970
11:50 ص
كل الأطفال يولدون وفي فمهم صرخة الحياة المعلنة/ المنذرة بقدوم قدر جديد لهذه الدنى، سيأخذ منها كما سيعطي، فالكل مدين للآخر في دورة هذا الزمن والمكان. نسير يوميا مع شركاء في هذا الكوكب، أقران مع الشمس والهواء، رفاق في الليل والسهر، أصدقاء الوحدة والألم، أخوة التراب و الماء. ومنهم... أختنا النخلة. الساكنة معنا في البيت نفسه، الحافظة لأسمائنا، الشاهدة على ما مضى من مراحل عمرنا، الحنون بظلها علينا في عبث الظهيرة، الرؤوم بعطفها على بكائنا في الساعات المتأخرة، الصابرة على الهجر والهجير، الوحيدة بعد رحيل الجميع. وكأني ما قاله صقر قريش في حضرة نخلة رصافة الأندلس، لتذكره برصافة العراق:
تبدَّتْ لنا وسط الرُّصافةِ نخلةٌ
تناءتْ بأرض الغربِ عن بلدِ النخلِ
فقلت شبيهي في التغرب والنوى
وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهلي
ففي حضرة الأخضر الحزين، كم من شعور يلفنا في وحدتنا/ غربتنا عن الآخرين. أو من نعيش على ذكراهم في ما تبقى من مساحة الخضرة في أرواحنا، في عزف منفرد، لمقطوعة الخريف الأخيرة. فها هي تمارا، وهو اسم النخلة في العبرية، والاسم الشائع على البنات الحسان ذوات القوام المديد الرشيق، يناجيها محمد عفيفي على لسان سارده في روايته الأخيرة (ترانيم في ظل تمارا) قبل وفاته بفترة بسيطة بسبب سرطان الحنجرة، لتنطق الطبيعة بكائناتها نيابة عنه:
«بجانبي حيث جلست على الكرسي القش الأصفر العتيق، مستظلا بصديقتي العزيزة تمارا، التي من خلال أغصانها تتساقط عشرات من دوائر الضوء الصغيرة البيضاء، وتنفرش حولي مثل قروش فضية متراقصة»، فأي صحبة هذه بقرب هذا الكائن الوديع، المستمع، يجيب سارد عفيفي:
«هنا أحب الجلوس في هذا الجو المعتدل من أوائل الخريف، حيث أحظى من الشمس بدفئها دون لسعتها. فليس من أجل عطر تمارا أجلس تحتها، لأنها قلما تجود بعطرها إلا قبيل الغروب والنهار يسلم المفاتيح للمساء».
هكذا هي النخلة، بكل أطيافها، أناسها، منتجاتها، أجزائها، بواقيها، تعيش معنا في البيت، الطرقات، العمل، الغربة، الوحدة، الحياة، الرحيل. أختم المقال بما قاله الشاعر السعودي محمد الثبيتي:
يوشك الماء أن يتخثر في رئة النهر:
هذا التراب يمزق وجهي
وهذا النخيل يمدّ إليّ يدهْ
يوشك النهر أن يتقيأ أجوبة الماء
من قال إن النهار له ضفتان
وأن الرمال لها أوردهْ؟
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
@bo_salem72