النازحون السوريون في لبنان «يتوسلون» ملجأ و«يتسولون»... قبراً «2»
النازحون مُطْمَئنون في «كترمايا»... فالقبور «مجانية»
| بيروت - من آمنة منصور |
1 يناير 1970
10:29 ص
• بلال قاسم: كل أموات المقيمين في كترمايا يُدفنون في مقبرتها من دون أن يدفع أهلهم فلساً
• أبو بدوي غادر قبل أعوام «بابا عمرو» مكرهاً وفي ملجئه أصيب بالتهاب رئوي مزمن وكهرباء في القلب
• أبو وليد ترك داره وماله في إدلب وكاد يموت بجلطة دماغية أدت إلى شلل نصفي في وجهه
تصفرّ الوجوه، وتترنّح الأبدان الوهنة، لكنها لا تسقط أرضاً. اللجوء يعلّم الصبر. والصمود هو صبر سنة واثنتين وأربع لا بل أكثر.. وما دفع اللاجئين السوريين إلى تحمل مُرّ النوم في العراء، سوى كيماوي الحرب الأكثر مرارة.
فوق مخيم اللاجئين السوريين في «كترمايا»، إحدى بلدات إقليم الخروب، تظهر شمس فصل الصيف الباهتة بخفر من خلف غيمة قطنية تغطي السماء. العواصف هدأت، ودرجات الحرارة ارتفعت نسبياً لتبعث الدفء في أطراف بشرية خدّرها الصقيع.
ولأن «الدفا عفا» خرج الجميع من خيمٍ شرّعت مداخلها للهواء النظيف، ليبدّد الكبير والصغير ساعات إضافية من الانتظار الطويل في الصمت والاستذكار، أو تبادل الأحاديث وتَناقُل الأخبار عمّا آلت إليه التطورات في البلدات والمدن السورية التي نزحوا عنها.
ككل يوم منذ «دهر» على النزوح، لا جديد في أخبار الدمار الذي بات مرآة القرى والصورة البشعة لأطلال المدن.. حتى أن خبر الموت ما عاد له الوقع المدوي كالسابق. فالوجوه التي أعاد البؤس والقهر تشكيل ملامحها، تخدرت هي أيضاً بعدما طالت لائحة الشهداء، وأتخمت النفوس بالحزن.
حتى أن البعض يحسد الشهداء على موتهم في بلادهم ودفنهم في تراب سورية، «فالأعمار بيد الله» كما يقول أحدهم «والموت يدرك السوريين أينما كانوا، ولا سيما في مخيمات اللجوء التي تتوافر في غالبيّتها مقومات الموت وليس مقومات الحياة».
صحيح أن الشتاء قد مر ولا أحد من اللاجئين السوريين لقي حتفه جراء البرد القارس في مخيم «كترمايا»، حتى خلال العاصفة الثلجية الأخيرة على غرار ما حصل في مخيمات البقاع شرق لبنان، إلا أن الخيم التي تفترش التراب في وهدة بعيدة من الأحياء السكنية، ليست بأفضل حال.
هنا تَدارك الصليب الأحمر اللبناني الأمر عندما هبّت أولى رياح «زينة»، حيث عمل عناصره على إغاثة سكان المخيم الذين يقارب عددهم 500 شخص، عبر تدعيم خيم وإصلاح أخرى. فاجتاز النازحون «قطوع» العاصفة على خير.. لكن سوء الرعاية الصحية يُبقي سيف «الموت المؤجل» مصلتاً، حتى أن سكان المخيم يخشون أقل الأمراض خطراً والتي تنذر بأن تتحوّل نتيجة الإهمال داخل الخيم المقتظة بالنازحين أوبئة لا تبقي ولا تذر.
الأمهات كما اعتدن على مداواة نزلات البرد في فصل الشتاء التي تصيب الأطفال «بالتي هي أحسن». لجأ كبار السن إلى الوصْفات التقليدية المحضرة من الأعشاب، لشفاء حالات الالتهاب السطحي أو لدغات الحشرات وآلام المعدة والصداع، التي تلمّ بالقريب والصديق.
أما الأمراض المزمنة، فلا رعاية صحية لها وقد اعتاد «لسان الحال» على تكرار: «الله الشافي»، كتعبير عن مزيج من الإيمان بقدرة الله، والاستسلام لتقصير المؤسسات الدولية التي تبخس في إغاثة الشعب السوري الذي فرّ من بلاده هرباً من البطش والقتل.
عند سؤال «الراي» جمْهرة من النازحين كانوا يجلسون عند مدخل المخيم عن أحوالهم، قدّم «أبو بدوي»، الذي غادر قبل أعوام حي بابا عمرو في مدينة حمص مكرهاً، نفسه كنموذج عن المعاناة. فأشار الرجل الستيني إلى إصابته بالتهاب رئوي مزمن وبكهرباء في القلب.
تبعه «أبو وليد»، النازح الذي ترك داره وماله في إدلب، معلناً أنه كاد أن يموت إثر تعرضه لجلطة دماغية أدت الى شلل نصفي في الوجه ورفضت على إثرها المستشفى استقباله قبل تأمين مبلغ كبير من المال لا يملكه.
أما الرجل الستيني، الذي رفض الكشف عن هويته، فدمعت عيناه بلوعة حين كشف مطأطئاً أن ابنته «تالا» طريحة الفراش منذ مدة جراء القصف بالكيماوي. وآخرون أحصوا مزيداً من الأمراض: ربو، سكري، ضغط دم مرتفع، التهاب في المفاصل.
أبو بدوي، الذي ترك خيمته ليغسل جسده التعب بضوء الشمس، علّ الدفء ينسلّ إلى روحه فينعشها، لفت إلى تفاقم وضعه الصحي في الخيم، ثم ابتسم ساخراً «صناديق المساعدات الغذائية لا تبرئنا من أمراضنا، نحن بأمسّ الحاجة إلى المساعدة الطبية المختصّة، لا سيما إلى جهاز أوكسجين».
وإذ شكا تقصير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في هذا الشأن، أثنى في الوقت عينه على كرم «علي طافش (صاحب الأرض)، وأهل الخير في كترمايا وإقليم الخروب، الذين يؤمّنون المال لإدخالنا المستشفيات عندما تشتدّ أحوالنا سوءاً».
الثناء نفسه يتكرر على كل شفة ولسان في المخيم، فرغم اليوميات المرهقة والظروف السيئة التي يعانيها اللاجئون، إلا أنهم يعربون عن عميق امتنانهم للبلدة التي استقبلتهم، ولابنها علي طافش الذي لم يتوانَ عن تقديم الأرض التي نصبت عليها خيم النزوح أو يقصّر في الوقوف عند حاجيات النازحين وتأمينهم بقدر المستطاع ولا سيما أن كترمايا «مضيافة» كما يصفونها، تسترهم أحياء وأمواتاً، فهي تؤمن لهم ما يتيسر من مقومات الحياة، وعند الموت تشرّع لهم أبواب مقبرتها لدفن أمواتهم بحسب الموجبات الشرعية ووفقاً للأصول الدينية من دون أن تفرق في ذلك بين لبناني وسوري، مقيمٌ في المخيم أو خارجه.
رئيس بلدية كترمايا بلال قاسم، الذي التقته «الراي» أثناء تفقده المخيم، أوضح أن «كل المقيمين في كترمايا، يُدفنون عند الموت في مقبرة البلدة بمَن فيهم النازحون السوريون»، كاشفاً أن «قسماً من المقبرة خُصّصَ للنازحين السوريين بعد موجة النزوح الكثيفة، حيث يُدفن كل ميت من النازحين في قبر مستقلّ».
وأكد أن «أهل الفقيد لا يدفعون فلساً مقابل القبر والدفن، شأنهم في ذلك شأن ابن كترمايا»، لافتاً إلى أن «لجنة وقف الجبانة، تتكفل بحفر القبر وبنائه».
أبو علاء، الذي كان ودّع حفيداً توفي بعد أيام من ولادته قبل شهرين بسبب عدم تلقي الأم الرعاية الصحية الضرورية أثناء الحمل وواراه في الثرى في مقبرة كترمايا، قال لـ «الراي» في هذا الإطار «نشكر كترمايا أرضاً وشعباً على إيوائنا أحياء وأمواتاً، لن ننسى فضل هذه البلدة ما حيينا».
وقاطعه أحد الرجال مزكيّاً كلامه «الأرض العربية بلادنا جميعاً، وهي سترنا في هذه الدنيا، لكننا نأمل أن يفرج الله همّنا لتنتهي مأساتنا برحيل الطاغية (الرئيس) بشار الأسد»، مضيفاً: «نحن شعب (عزيز النفس)، نرفض أن نكون عبئاً على أحد لولا جور الزمان والحكام الذي أجبرنا على ترك بيوتنا وأرضنا لنحمي أطفالنا من القتل والدمار. نريد العودة إلى بلادنا اليوم قبل الغد، لنعيش فيها بعزّة ونموت فيها بكرامة».