البحث عن رؤية أخرى لواقع الرواية (1)
نقد / السرد المستقبلي... في «فئران أمي حصة» لسعود السنعوسي
| سعاد العنزي * |
1 يناير 1970
01:12 ص
«فئران أمي حصة»... الرواية الثالثة، للكاتب سعود السنعوسي بعد رواية «سجين المرايا»، ورواية «ساق البامبو» الحاصلة على جائزة البوكر في عام 2013م، وهي تنطلق من هموم البيئة المحلية الكويتية، ومعاناة وقلق الهوية الكويتية بتفاصيلها المتعددة. بينما كان السنعوسي منطلقا من فكرة الهوية الهجينة لبعض الكويتيين من أمهات غير كويتيات كالآسيويات، هوزيه من أب كويتي وأم فيليبينية، تأتي هذه الرواية، من المختلف الداخلي- الداخلي، بين سني وشيعي، وفي ما يبدو لي إن هذه القضية المؤرقة لفكر المؤلف، طامرا على قضية الاختلاف البدوي/ الحضري التي تبدو لي هذه منطقة اشتغال الروائي ناصر الظفيري. ليس مهما أن يكتب الكاتب عارفا بجميع أنواع الاختلافات في الهوية، بل لو تخصص في قضية واحدة وتعمق فيها بشكل موسع كان كافيا في هذا المحدد من محددات الهوية على ألا تهمل بقية المحددات من اشتغالات مختلف أطياف الأدباء الكويتيين. فما زلت أعتقد أن هوية البدو المعاصرة وتفاصيل حياتهم شبه مغيبة عن الإبداع سردا قصصيا، أو في الدراما التلفزيونية، وهذا أمر مهم لأسباب عدة أذكر منها أن هذه الفئة بحاجة إلى رؤية صورتها من خلال نص يلتقطها ويتأملها ويحللها ويقيمها وينقدها، لكي يتسنى لهم أن ينظروا لأنفسهم من خلال مرآة الأدب، والنظر للذات كما هي من دون أوهام الذات، هو أول الطرق لتغييرها، أن تعرف ذاتك من خلال الأدب. ثاني هذه الأسباب هو معالجة قضية الاختلاف بين الذات البدوية/ الحضرية، فالحضر والبدو يعيشون الآن في دوامة العبارات المقولبة عن الآخر البدوي (كسول)، والحضري (عنصري)، وغيرها من الأمور التي لابد أن يعكسها النص السردي رغبة في إيجاد طريق من التسامح والتعايش الحقيقي الذي يبنى على تقبل الاختلافات وتصحيح النظرات المقولبة. واختراق المختلف لرتابة الذات المتشابهة، فنحن لدينا صور متعددة داخل المجتمع الواحد، تجمعها قواسم مشتركة، وتتنوع ببعض الصفات المحققة لفكرة التنوع خلال المجتمع.
أنا هنا لا أنكر إنه تم التطرق لها، من قبل أدباء، ولكنه كما أنه يكون قد تم على استحياء من الأدباء البدو أنفسهم. وهذا بالطبع يثير تساؤلات عدة مثل: إن الأديب الكويتي لا يرى أن هناك اختلافا في هوية الكويتي الحضري والكويتي البدوي لا سيما أن هناك مجموعة كبيرة من الأدباء في الكويت ما زالوا يرون أن الأدب يقدم الصورة العالمية للإنسان مما ينكر اختلافات المختلفين أنفسهم داخل المجتمع، وهذا ناتج عن موجة بنيوية كانت تؤمن بالتشابه والتكرار والاستمرارية لذات الأفكار إلى أن جاءت مابعد الحداثة لتغير النظرة السابقة فكرة الثابت والمتحول في النظر للهوية. فهذا عصر الاختلاف وقد تحدث العديد من كتاب غربيين عن هذه الاختلافات في الهوية منذ زمن سابق وعلى الأدب بما هو نص إنساني أن يستوعب هذه الموجة.
موضوع الحكاية بين الجدة والقدم:
من أكثر الأجزاء المبهمة في الرواية، هو موضوع الجزء الخاص بـ «يحدث الآن» الذي أخذ من زمن الحكاية نصف يوم يبدأ من الثانية عشرة مساء وينتهي بعد اثنتي عشرة ساعة، يرصد فيه المؤلف صورة الكويت في عام 2020م، حيث الصراعات والاقتتال والأوضاع الأمنية المستنفرة. وهو من السرد المفزع لكويت المستقبل، بناء على معطيات الحاضر. السنعوسي أراد أن يرسم صورة تراجيدية للمستقبل، لكي يفزع متلقيه في الحاضر كي لا تنحرف الأمور إلى تلك، وكأنه يقول للجميع ما زال هناك خط عودة، لو إن كل المعنيين بالصراع يقرأون أدبا، ولكنهم لا يفعلون للأسف.
يقول إدوارد سعيد في كتابه المهم في عملية الكتابة، وكيف يبدأ الكاتب عمله، نيته وطريقته في اختيار العمل، وما يؤسس بداية العمل: «الكاتب في البداية ينطلق من كل الأعمال السابقة الأخرى، والبداية تؤسس في الحال علاقات مع أعمال موجودة أساسا سواء كانت علاقات مستمرة لها أو معارضة لها، أو علاقات مختلطة بين الإثنين». (سعيد، بدايات، 3) مثل هذه الفكرة، فكرة الرواية، تدعوني للبحث على مصدر الفكرة وأصولها، كيف تخيل السنعوسي الكويت عام 2020م وبناء على أي معطيات رسم هذه الصورة التراجيدية للكويت في المستقبل؟
برأيي إنه نظريا استفاد كثيرا من كتاب «الهويات القاتلة» لأمين معلوف، فمن يقرأ منتجه يدرك إنه مدين بفكره لأدب وفكر أمين معلوف، فشخوص الرواية بالنهاية بعد تأجيج الفتن الطائفية، تحولت إلى هويات قاتلة، (صادق قتل فهد). بالإضافة إلى أمين معلوف فهناك أيضا عملان تقاطع معهما السنعوسي وهما رواية 1984 لجورج أوريل الذي سرد المستقبل في روايته، والكاتبة الكندية مارجريت آتوود في روايتها قصة الخادمة، و تتحدث عن فضاء تأملي مستقبلي غرائبي يتوقع أن الرواية تحدث في عالم 2195م ترسم فيها عالما لنظام شمولي أصولي يحكم الجميع ويسيطر على الكل يصبح فيه الناس مجرد أدوات لعبة الشطرنج تحركها الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة لمقاطعة Gillad.فالسرد المستقبلي لعالم أكثر سوداوية متوافر بنماذج حققت للأديب فرصة التقاطع معها، بتشابه وتكرار وإعادة، من دون أن يقدم وجهة نظر مخالفة، لأنه وقع تحت سيطرة هوس رصد الواقع من دون التحليل والمعارضة.
أما عمليا، فالفكرة آتية من أمرين إن كان لي حق تحليل من أين أتى الكاتب بهذه الرؤية، وهي بالمناسبة ليست رؤية أصيلة للمستقبل، لأنها مبنية على ما هو مخزون في اللاوعي الكويتي يخرج على شكل سقطات اللسان ويفصح عنه في الجلسات الخاصة، وبعض ماتقوله الحكومة عن الأوضاع المادية الاقتصادية للكويت، فسعود اختزل كل هذه المخاوف رصدها على شكل نبوءة مستقبلية للمستقبل يحسب له جرأة الرصد والتحرير للذاكرة الشفهية، إضافة إلى ما يحدث بجوارنا من البلدان العربية، فلو قرأنا ما كتبه المؤلف هو مماثل لما يحدث حولنا من أحداث رصدها الإعلام العربي، والسرد العراقي والسوري، ولو قرأنا تفاصيل سرديات عراقية مثل رواية «طشاري»، و «يحدث في بغداد»، ومجموعة قصص «تشتعل ولا تضيء»، ورواية «صائد الجثث» لزهير الجبوري، يكون هو أسقط ما يحدث هناك على هنا.
ثالث هذه المصادر هي أزمة الغزو التي تعرض لها السنعوسي بتفصيل كبير ليعكس صدمة الشعب الكويتي في الغزو التي لم يشف منها بعد، فأصبح مابعد الغزو من أحداث هو غزو داخلي آخر لأن الشعب، بعد انعكاسات الصدمة، فقد فكرة الأمان والاستقرار، فما يحدث اليوم هو صنيعة الماضي، ولكن سعود لم يتطرق للعوامل الأخرى التي أدت لهذه الحالة من التفتيت. كالعولمة وانتشار القنوات الإعلامية الطائفية، حيث أصبح كل شيء متصلا On line يجمع بين الفرق والطوائف والأيديولوجيات العالمية، إضافة إلى الأجندات الخارجية التي ترسم خارطة تفتيت الشعوب العربية على مهل.
* كاتبة وناقدة كويتية