قوس قزح / أصحاب الدم الأزرق

1 يناير 1970 01:27 ص
من هم أصحاب الدم الأزرق؟ وهل هو أزرق فعلا؟

يرى كثير من الباحثين ومنهم جون كوتسكي في كتابه «سياسات الإمبراطوريات الأرستقراطية» أن الفروق بين الطبقة الأرستقراطية ومن كان يعمل لديهم من فلاحين وعمال ظلت لمئات السنين تفسر بوصفها فروقا طبيعية جينية، أي إنها منحة من الله لا يد للبشر فيها وبالتالي لا يمكن لبشر تغييرها، ويوضح كوتسكي أن مصطلح الدم الأزرق هو جزء من طوفان الادعاءات التي بررت بها طبقة الإقطاعيين الأرستقراط فكرة التفوق بالميلاد. ظهر مصطلح الدم الأزرق في إسبانيا القرون الوسطى. والسبب أن طبقة النبلاء وملاك الأرض من الإقطاعيين الذين يعيشون على دماء بقية الناس كانت جلودهم بيضاء شاحبة لعدم تعرضها للشمس، لذلك كانت عروقهم تظهر من تحتها بلون أزرق. في مقابل الفلاحين الذين لوحتهم الشمس فأسمرت جلودهم مخفية ما تحتها من عروق. خرافة ضمن خرافات كثيرة تناسلت في وعي البشر لآلاف الأعوام، ثم انتبه لها الإنسان في سعيه للحرية والمساواة، وفي سعيه لمحاربة العنصرية المقيتة، فطرح تلك الخرافة أرضا وألقاها في غيابات جب التاريخ السحيقة.

وعلى الرغم من أن خرافة الدم الأزرق العنصرية محاصرة مهيضة محتقرة في الدول الأكثر تطورا في مجالات حقوق الإنسان وسيادة القانون، فإن الخرافة نفسها تبدو مزدهرة راسخة في المنطقة العربية بأشكال وتلونات غاية في القبح والسذاجة معا.

منذ أيام معدودات خرج علينا وزير العدل ـ وياللسخريةـ في مصرـ وياللمأساةـ مقررا بهدوء أن أبناء الطبقات الفقيرة هم محتقرون بالميلاد، فلا يحق لابن عامل النظافة مثلا أن يدخل إلى مناصب القضاء التي لها هيبتها ويجب على من يدخلها أن يكون من بيئة اجتماعية مقدرة محترمة. أسطورة الدم الأزرق القبيحة الساذجة نفسها، والادعاءات نفسها التي ألقاها التاريخ وأصحابها في سلة مهملاته. وكي أتجنب تكرار الهجوم الذي تعرض له الوزير المستقيل تحت ضغط الغضب الشعبي من كلامه، أود الوقوف هنا عند فكرتين أظنهما مما غاب في النقاش الذي اشتعل حول الوزير السابق.

النقطة الأولى تتصل بأن الوزير بدا لكثيرين أكثر شجاعة من غيره لأنه أقر بالواقع الأليم في حين يمارسه الباقون من دون كلام، فهل هذا جزاء من يواجهنا بمشكلاتنا؟

هنا لابد أن نفصل بين شخصين: الشخص الأول يقدم التفرقة العنصرية بين أصحاب الدم الأزرق (القضاة ورجال الدولة في المواقع المختلفة) وبين عامة الشعب المصري من العمال والفلاحين، بوصف هذه التفرقة مشكلة يجب التصدي لها اجتماعيا وقانونيا، والشخص الثاني يقر بالتفرقة العنصرية بين ذوي الدم الأزرق وبين من عداهم ويدعونا للإقرار بها والكف عن مقاومتها لأنها من طبائع الأمور وثوابت المقادير. تصريحات وزير العدل السابق لم تكن تعبيرا عن شجاعة أو رغبة في مواجهة مشكلة، بل كانت تعبيرا عن شعور طاغ ببداهة ما يقول، وباستقرار الأمور في مصر بعد القضاء على ما يشبه الثورة فيها وعودة الأسياد إلى مقاعدهم العالية الحصينة، وعودة العبيد إلى محارقهم اليومية. تصريحات الرجل أتت من مساحة استرخاء ويقين مطلقين، لذلك لا وجوب لشكره على صراحته، بل ما يجب علينا هو الانتباه لثقافة العنصرية الحادة التي تفرق الشعب المصري إلى أسياد وعبيد، والتي أصبحت بداهة في وعي كثيرين خصوصا من يظنون أن الدم الأزرق يجري في عروقهم، ما يجب هو التحرك الفوري لتفعيل الدستور الذي يعتمد معيار الكفاءة معيارا وحيدا لتولي المناصب في أي مكان، ما يجب هو تحرك الدولة كمن أصابه مس من حريق لتعديل القوانين والقضاء على أفكار العنصرية التي يقتاتها الناس.

النقطة الثانية تتصل بملامح وجه الوزير المستقيل، إنه مصري جدا، أسمر طويل الوجه، أسود العينين منحوت الملامح، ما يدل على أنه منحدر من أسرة تنتمي لفلاحي مصر وهو ما اتضح أنه صحيح. الوزير إذا ليس من ذوي الدم الأزرق بالميلاد، إنه منهم بالانتساب والاعتياد والتطلع والمكاسب، أصول الوزير ذي الدم الأزرق من طبقة العبيد الذين أظهر احتقاره لهم. ويكفي أن نعود بالتاريخ لعصر أسرة محمد علي لنتساءل عن أجداده، الذين غالبا ما كانوا يرتدون الجلباب الأزرق الشهير (وهو الشيء الوحيد المشترك في لونه مع طموح الوزير) ويعانون ككل المصرين من لسع سوط النبلاء لظهورهم. جميعنا في مصرـ تقريباـ من هذا الأصل. الفلاحون الذين صمدوا في وجه الزمن وأنبتوا حضارة مصر بكل ما تحملوه من ألم وعنصرية، هم فخرنا وأملنا في النهوض، وهم من ظهر منهم عباقرة مصر من مفكرين وفنانين وشعراء وروائيين وممثلين ومخترعين وساسة؛ اسألوا يا سادة عن أصول هؤلاء: سيد درويش، أم كلثوم، طه حسين، العقاد، محمد عبد الوهاب، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، جمال عبد الناصر، والآلاف غيرهم. الغريب هو سرعة تحول بعض أبناء الفلاحين المصريين إلى منتمين بالادعاء والتمني لذوي الدم الأزرق، أهي شهوة السيادة أم صلف السلطة، أم الجهل بالإنسان وبالتاريخ كليهما؟ كان على الوزير العنصري وأمثاله الذين خرجوا ليؤكدوا أن توريث مناصب القضاء لأبناء القضاة هو «زحف مقدس»، كان عليهم جميعا أن يذكروا أولا أصولهم العظيمة التي ترجع لفلاحي مصر وعمالها البسطاء لعلها أن تقيهم من التعالي الزائف والعنصرية البغيضة، كان عليهم أن يتمهلوا قليلا قبل أن يعيدوا لنا أساطير العنصرية الأوروبية التي انتهت إلى غير رجعة في أوروبا، ولم تزل حية في ثقافاتنا المرتبكة.