لقاء / أكدت أن «عاصفة الحزم» تعطي معنويات للمقاتلين بأنهم يحاربون العدو نفسه

كارول معلوف لـ «الراي»: معرّة النعمان «ممسوحة»... وساكنو كفرنبل يعيشون الثورة

1 يناير 1970 12:14 م
• زيارتي لإدلب بعد تحريرها محورها الإنسان على الصعيد الموضوعي وغايتها «الإغاثة» كما العمل الصحافي

• في لحظة ما ونتيجة التعب قلت «خلاص اتركوني سأبقى هنا لا أريد مواصلة الرحلة»

• المهرّبون ثمانية أكبرهم عمره 18 عاماً وأصغرهم 15 والمسؤول عنهم لا يفوق عمره الثلاثين

• المعنويات عالية بعد «عاصفة الحزم» وتفاؤل بإمكان قيام منطقة حظر جوي

• الأطفال يميّزون أصوات الطائرات إذا كانت مروحية سترمي برميلاً متفجّراً أو «سوخوي» تلقي قذيفة
رحلة شاقة وشيّقة قادت الناشطة والإعلامية اللبنانية كارول معلوف إلى محافظة إدلب «المحررة» من النظام السوري بحثاً عن «الحقيقة»، تلك التي لا يعرفها إلا سكان هذه المنطقة، ولم يَخبَرها إلا ناسها المثابرون على العيش المحفوف بـ «البراميل المتفجرة».

وجهة معلوف نحو سورية كانت معروفة مسبقاً، كذلك ما كابدته من عناء وواجهته من مخاطر، لا سيما وأن الحدود السورية ـ التركية هي البوابة الوحيدة إلى إدلب وإقفالها وضعها أمام خيار الدخول خلسة بمساعدة «سلسلة» من المهرّبين. وهكذا حصل، إذ دخلت إلى إدلب يرافقها طارق أبو صالح، وهو مدير جمعية «لبنانيون من أجل اللاجئين» التي أسّستها، ولم تفلح «الحدود» في وضع حدود لإصرارها وعزيمتها على إتمام الزيارة والعودة بعد سبعة أيام بـ«الحقيقة» المرجوة منها.

عقب عودتها إلى لبنان روت معلوف لـ «الراي» حكايات الناس وظروفهم. تحدثت عما شاهدته بأم العين وما سمعته من ألسنة الناشطين والثوار، حيث كان معها هذا الحوار:

• بين الإغاثة والصحافة ما الذي قادك إلى سورية؟ ـ معرفة الحقيقة. أنا صحافية استقصائية، وأعتبر أن هناك حقيقة نلمسها في الواقع مختلفة عن تلك التي يتم تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة من بعيد. فكل مَن يتسلم إعلاماً معيّناً يخبر «الخبرية على ذوقه». لذا وبين ما يُحكى دائماً عن النظام و«داعش» وأن إدلب خالية من «داعش» وأن روح الثورة ما زالت فيها، أردتُ الذهاب لرؤية هذا الأمر واختباره بنفسي. وفي الوقت عينه، أردتُ رؤية الوضع الإنساني. فالإنسان كان هو محور الزيارة على صعيد موضوعيْ الإغاثة كما العمل الصحافي.

• هل يمكنك أن توجزي لنا رحلتك إلى الداخل السوري؟ ـ توجّهنا جواً إلى تركيا، ثم جاء مَن أخذنا من مطار هاتاي إلى منطقة على الحدود التركية ـ السورية حيث انتظرنا في منزل إلى حين جاءت سيارة أخرى نقلتنا إلى النقطة الحدودية حيث كان هناك منزل آخر على الحدود مباشرة. وانتظرنا فيه حتى التاسعة مساء، حيث أعلمونا أن موعد الانطلاق قد حان. حينها كان الطقس ماطراً والليل دامساً والأرض موحلة، ركضنا الجبل صعوداً في تلك الظروف، ولم أكن أعرف أين تطأ قدمي. سقطتُ أرضاً ما يزيد على عشر مرات. وفي لحظة ما وبنتيجة ما شعرت به من تعب قلت: «خلص اتركوني سأبقى هنا، لا أريد المواصلة». الرحلة كانت صعبة جداً، ولا سيما وأن الجندرما التركية شعرت بوجودنا وحاولت البحث عن مصدر الحركة وبذلنا جهداً كبيراً لنختبئ منها.

• إلى أي حد كان الأمر خطراً؟ ـ خطِر جداً، ففي الفترة الأخيرة قُتل ثلاثة أشخاص أثناء تهريبهم، إذ إن الجندرما تطلق النار مباشرة على الناس.

• ما الذي دفعك إلى إكمال الطريق إذن؟ ـ إصراري على المتابعة، فالعودة لم تكن خياراً. وفي تلك اللحظة رحت أكلم نفسي قائلة «هيا كارول بإمكانك القيام بذلك، بإمكانك المتابعة». وأكملنا الطريق. ولاحقاً علمنا أننا تأخرنا بسبب إلقاء الأتراك القبض على المهرّب الذي تم إطلاق سراحه بعد وقت لأنه يعرفهم «زبّط حالو». وأشير هنا إلى أن المهرّبين هم نحو سبعة أو ثمانية يربطون الطريق، أكبرهم يبلغ من العمر 18 عاماً والأصغر في الخامسة عشرة والمسؤول عنهم لا يفوق عمره الثلاثين. والمهرب ذو الثامنة عشرة «مسكه» النظام مرّتين حين كان الأخير ما زال في إدلب.

• أيّ مناطق سورية زرتِ وكيف كان يبدأ نهارك وكيف كان ينتهي؟ ـ في اليوم الأول وصلنا إلى الجانودية، وهي منطقة عسكرية بامتياز قريبة من جسر الشغور. وحين وصلنا إليها كان يتم الاستعداد لمعركة جسر الشغور. الاستيقاظ يومياً هو على صوت الطائرة، التي لا تعرفين إن كانت ستقصف حيث أنتِ أم لا، وبالتالي لا تعرفين إذا كنت ستكملين نهارك أم لا. هكذا يعيش سكان المنطقة كل يوم.

• كيف ينامون إذاً وسط هذه المخاطر، هل اعتادوها؟ ـ وإن كان القصف يومياً، الا انه لا يمكن القول إنهم اعتادوا الأمر، فعلى سبيل المثال «أم موسى» التي أقمنا في منزلها لم تعتد الأمر، وما زالت تصاب بنوبة هلع وتصرخ كل يوم. نمنا في منزلها على الفُرش أرضاً، وفي اليوم التالي اصطحبنا المهرّب في جولة. والمهرب على فكرة، يُقلّ الناس الذين يلتقيهم على الطريق ويساعدهم. وبالعودة إلى الجولة، جلنا على كل المنطقة وزرنا المخيمات في منطقة حمام الشيخ وتفقّدنا المخيمات التي تديرها جمعيتا النور ومرج دابق حيث كانت تتم حملة لتلقيح الأطفال. كما زرنا مشفى ميدانياً، وشاهدنا بعض المواقع العسكرية. يمكن القول إننا قمنا بزيارة إغاثية عسكرية في اليوم الأول. وأود الإشارة إلى أن التنقل في هذه المنطقة هو كالسير في لوحة من الخضار وشجر الزيتون «تأخذ العقل»، فالمناظر مذهلة. وشعرت بالحزن كيف أن هذه المنطقة الجميلة نزح غالبية أهلها عنها. انتابنا حقاً مزيج من المشاعر أمام ما رأينا بين المآسي والجمال. في هذه المنطقة بقينا لمدة يومين، ثم توجهنا إلى إدلب المدينة فـ كَفرَنبِل عاصمة اللافتات والغرافيتي. وهناك التقيتُ الناشط الإعلامي هادي العبدلله. وفي طريق العودة زرت المناطق المسيحية وهي اليعقوبية، الجديدة والقنية حيث يقع دير ورفاة القديسة آنا، وهذه المنطقة معروفة عند المسيحيين ويزورونها من كل دول العالم.

• ما انطباعاتك عن الحياة في هذه المناطق، وما حجم الدمار وهل يؤدي إلى الإحباط أم أنه يزيد من النقمة على النظام؟ ـ بالطبع هناك نقمة على النظام، ولكن بعض الناس كانوا يتقاضون رواتبهم منه عندما كان لا يزال في المحافظة. وحتى ولو كانت هذه المناطق خاضعة للثوار، فهم كانوا يتوجهون إلى المحافظة لقبض رواتبهم. وبالتالي فإن هؤلاء الناس ناقمون اليوم على الثورة، لأنهم كانوا مستفيدين من النظام، أما مَن كانوا أصلاً مع الثورة فهم ما زالوا معها واشتدت عزيمتهم أكثر ليكونوا ضد النظام.

• كيف تصفين الحياة هناك؟ ـ صعبة جداً؛ إذ لا ماء ولا كهرباء ولا هاتف أو موبايل. الشبكة التركية تغطي المناطق الحدودية، لكن عند الوصول إلى وسط إدلب وإلى منطقة كفرنبل فلا تغطية خليوية أو هواتف نهائياً، ويظل التواصل متاحاً عبر التلفونات التركية في الجانودية والمناطق الريفية. هناك اشتراك بمولدات الكهرباء وإنترنت فضائي.

• هل كلفة هذه الخدمات باهظة فوق المعقول؟ ـ لا، هذه الخدمات ليست بالرخيصة ولا الباهظة الكلفة. الإغاثة لا تصل إلى كل الناس. فموضوع الفساد موجود دائماً. هناك جمعيات كما ذكرت تعمل كثيراً، ولكن في أماكن أخرى لا تصل الإغاثة إلى كل الناس. وكما تعلمين فإن الحدود مع تركيا مقفلة حالياً وغالبية المواد التي تدخل هي «تهريب»، وما هو تهريب يكون باهظ الثمن جداً. لذا فإن الناس تخبز على الحطب كي تأكل، وتزرع الأرض لتأكل. يمكن القول أن الحياة عادت بدائية قليلاً في هذه المناطق.

• ما حجم الدمار؟ ـ معرّة النعمان «ممسوحة» (سوّاها النظام أرضاً) وهذا أكثر ما لفتني. فبالنظر إلى المناطق الريفية تجدين الأضرار التي أحدثها سقوط الصواريخ هنا وهناك وعلى الأبنية، لكن معرّة النعمان كلها «على الأرض» ولم يتبقَ مبنى واحد فيها. حجم الدمار هائل جداً.

• كنت في سورية عند الاستعداد لخوض معركة جسر الشغور. بخلفيتك الصحافية وبمتابعتك، ما تفسيرك لتمكن المعارضة من السيطرة بشكل مفاجئ على إدلب وجسر الشغور ؟ ـ أبداً ليس مفاجئاً، فحين تتحدثين إلى المقاتلين تفهمين هذا الأمر. فهم تعلّموا من الأخطاء. وقد تبيّن أن جماعة جمال معروف وما كان يُعتبر معارضة معتدلة مدعومة من الغرب كانوا عقبة في موضوع التحرير. أي أنهم كانوا بطريقة أو بأخرى «حامين للنظام». فبعد سقوط وادي الضيف ومواقع جمال معروف ـ وأنا زرت وادي الضيف وشاهدت الخنادق وما حدث ـ بدأت حينها المعارك تتقدم وبالتالي هي لم تحدث فجأة، بل على العكس راح الثوار يسيطرون على المنطقة تلو الأخرى. وتوحيد الفصائل مسألة مهمة جداً وهو ما يعرف بـ «جيش الفتح»، وهذا الجيش أقام غرفة مشتركة وبات جيشاً منظماً. لقد تغيّر طابع الثورة، فهي لم تعد مجموعة فلاحين يحملون السلاح في كرّ وفرّ ضد النظام، بل باتت هناك إستراتيجية للقتال. فِكر الحرب تبلور عند هذه المجموعات وباتت تعرف ان تحارب أكثر. وبالتالي ما حصل غير مفاجئ ولا علاقة له بعاصفة الحزم، بل هو تطور لمنطق أو خبرات القتال والحرب عند المقاتلين. وتوحيد صفوفهم ضمن «جيش الفتح» هو ما أدى إلى هذه النتيجة.

• على سيرة «عاصفة الحزم» كيف كان صداها لدى أهالي تلك المناطق؟ ـ العدو بالنسبة لهم مشترك، وتحالُف تسع دول من الخليج في وجه إيران في اليمن يعطي معنويات للمقاتلين بأنهم يقاتلون العدو نفسه أي تحالف إيران ـ نظام الأسد ـ حزب الله أو أنصار الله في اليمن، فهذا امتداد. هناك بالطبع معنويات عالية، ولكن ليس هناك تعويل فهم يعلمون أن التحالف لن يأتي إليهم. ولكن ما هم متفائلون به هو أن يؤدي هذا الأمر إلى منطقة حظر جوي؛ بمعنى أنهم يقولون: إذا كنتم لا تريدون المجيء لتقصفوا النظام، أقله ساعِدونا في وقف سقوط البراميل. والنظام يعلم أنه إذا توقف قصفه للمناطق فهي ستسقط تباعاً.

• اجتماعياً إلى أي حد هناك تعايش بين أهالي المناطق والجماعات الإسلامية ولا سيما المتشددين ودعاة تطبيق الشريعة، وإلى أي حد هناك سطوة لهؤلاء عليهم؟ ـ هؤلاء ينقسمون إلى نوعين؛ فمنهم المقاتلون وهم على الصفوف الأمامية ومنهم الشرعيون الذين يعملون على تطبيق الشريعة. والشرعيون والمقاتلون ليسوا نفس الناس. وأكرر في هذا الإطار أن ما يجري هو حرب، والناس بحاجة إلى مَن يقاتل، وهم يرون أن هؤلاء يقاتلون النظام، وهذا يقع في سلّم أولوياتهم وهم يدعمون أي جهة تساعدهم على التخلص من النظام ما دامت ليست «داعش». فالفصائل المعتدلة تضم فصائل إسلامية، لكنها معتدلة مقارنة بغيرها، مثل حركة «أحرار الشام»، إضافة الى فصائل الجيش السوري الحر. هؤلاء أخرجوا «داعش» من المنطقة وهم الذين يقفون في وجه تطبيق الشريعة من قبل الشرعيين، والناس يقولون: فلنقاتل النظام الآن كي يسقط ولاحقاً نتفاهم لا سيما وأن غالبية هؤلاء هم من أبنائنا. إلى ذلك الريف هو منطقة محافِظة أصلاً، وغالبية النسوة محجبات منذ ما قبل قيام الثورة، كما أن الناس هناك يعرفون أنه ليس بإمكانهم المحاربة على مئة جبهة، ويرون أن أمامهم جبهة واحدة هي جبهة النظام. وفي فترة سابقة تمت محاولة فرض بعض الأمور كاللباس والفصل بين النساء والرجال، لكن السوريين لم يقبلوا بذلك، ولذا لم يتم فرض هذا الأمر عليهم بالقوة.

• بإمكان الناس رفض ما يُفرض عليهم بالقوة ودون اقتناع؟ ـ لقد خرجتْ تظاهرات ضد الفصل ومنع التدخين. وكثير من الأمور التي تمت محاولة تطبيقها، قوبلت بالرفض من الناس ومن أحرار الشام ومن أبناء المنطقة المشاركين في فصائل الجيش السوري الحرّ. حتى أنني سمعت أن أناساً من «جبهة النصرة»، وهم سوريون من أبناء المنطقة أيضاً، خرجوا مع الناس في التظاهرات معلنين أننا لا نريد هذا النوع من الحكم «ولا تأتوا لتطبقوا علينا الشريعة بهذه الطريقة».

• فيما خذل العالم الثورة السورية وأدار ظهره لها، هل انطفأت في الداخل شعلة هذه الثورة؟ ـ هناك تعب، لكن هناك أيضاً إصرار على الاستمرار. لن يتوقفوا عن إكمال ما بدأوه. الحراك المدني في كفرنبل مازال يخرج كل نهار سبت بشعارات ولافتات، ولن يتوقف. رائد فارس الناشط المعروف يقول «نحن مستمرون مهما كان عددنا». ولرائد أيضاً راديو فرش الثوري وهو مستمر في البث. باختصار في كفرنبل يقولون: نحن ثوار، ويعيشون الثورة، وعلم الثورة مرفوع دائماً. الحركة النسائية وغالية رحال ومركز «مزايا» أيضاً مستمرون. فـ غالية كان لديها مركز واحد هاجمته «النصرة» وأحرقته، وقد أخذوا الأغراض وأحرقوا سيارتها، ومع ذلك استمرت وبات لديها اليوم ستة مراكز في محافظة إدلب. الحراك المدني حي، لكنه لا يُرى ولا يُحكى عنه.

• هناك مَن يظهر في الواجهة ويسرق الأضواء؟ ـ الآخرون هم بروباغندا. «داعش» «شاطرة» بذلك. فيما حركة أحرار الشام الذين هم إسلاميون «وبياخدوا العقل» والناس يحبونهم كثيراً وهم أكثر مَن يشتغل مدنياً على الأرض ويساعد، لكن أحداً لا يتحدث عنهم لأنهم لا يملكون بروباغندا. هؤلاء أناس يعملون على الأرض ولا يكترثون للبروباغندا.

• ما دور المرأة في الثورة، هل هي مقموعة، مهمشة أم فاعلة وحاضرة؟ ـ المرأة هي جزء لا يتجزأ من الثورة، والنسوة مكوّن أساسي وشعارهنّ «لم نعد عبئاً أصبحنا سنداً». والنساء يعملن ويقمن بتدريب على محو الأمية، وبدورات كمبيوتر، حياكة، معارض ويجنين المال. هن يسعين للعمل لتكون المرأة في الثورة وفي مرحلة ما بعد الثورة عضواً فعّالاً في المجتمع وليست مهمشة. حتى أن وضع المرأة لم يكن على هذا النحو قبل الثورة. ففي عهد النظام كانت المرأة مهمشة والثورة أعطتها حريتها. والفتيات في الثامنة عشرة والتاسعة عشرة يحضرن لتحصيل الدروس عند غالية بعدما كان ذووهن يمنعونهن من الحضور في بادئ الأمر، لكنهن مصرات على الذهاب إلى المراكز التي يقصدنها كل يوم.

• هل من سيدات يضطلعن بدور تحضير الطعام للمقاتلين، ويقمن بدور في الإسعاف وتضميد الجراح؟ ـ نعم، في المناطق القريبة من مراكز القتال بالطبع. المرأة بالتالي ليست مهمشة، لا بل أنا رأيت أنها أقوى من الرجال.

• ماذا عن الأطفال، هل هم في المنزل أم في المدرسة أو على الجبهة؟ ـ يذهبون سيراً على الأقدام إلى المدرسة كل يوم. وأنا زرت مدرسة البنات وهي «بتاخذ العقل». المناهج بالطبع ليست ممتازة والأساتذة لا يتقاضون رواتبهم لأن النظام خرج من المحافظة، إلا أن هناك إصراراً على المتابعة بالحد الأدنى. فحتى في المخيمات هناك مدرسة، وهناك أيضاً حملات لمحو الأمية في ظل الثورة.

• هل هناك حالة إنسانية استفزتك وما زالت تراودك بعد عودتك؟ ـ الأطفال بإمكانهم تمييز أصوات الطائرات، وهذا الأمر أدهشني. إذ أنه من خلال أصوات الطائرات يميزون اذا كانت مروحية سترمي برميلاً، أو «سوخوي» أو «ميغ». وهم يخرجون بصدور عارية يبحثون عن الطائرة ليعرفوا أين ستقصف. لا أعرف كيف سيتم في المستقبل التعامل نفسياً مع هذا الوضع عند الأطفال.

• إلى ماذا يدل هذا الوضع عند الأطفال.. إلى تأقْلُم مع الحرب؟ ـ تطبيع طابع الحرب. الأطفال يعايشون هذا الواقع. لذا لا تستغربي أن يكون المهربون من المراهقين، ولا تستغربي أن يكون هناك أطفال في الرابعة أو الخامسة من عمرهم يفهمون بالسلاح. فهؤلاء أطفال الحروب، وللأسف يربى داخلهم حقد. غالية رحال أنشأت في مركزها دار حضانة للأطفال بعدما لاحظت أن كل النسوة لديهن أطفال ولا يمكنهن الحضور إلى المركز لهذا السبب. وعند زيارتي للدار أخبرتني المعالجة النفسية فيه أن غالبية الحالات تعود لأطفال عدوانيين؛ فهناك طفل اعتُقل مع أهله لمدة عشرين ساعة عند النظام وهو سمع والده وشاهد كيف يُضرب ولذا يحاول تطبيق ما شاهده في الاعتقال مع أصدقائه في الدار. وهناك أيضاً فتاة في الرابعة من عمرها تسرق من أصدقائها لأن أهلها لا يملكون الطعام في المنزل. وضْع الطفولة هو أكثر ما أثر فيّ، فالسؤال يطرح حول مصيرهم ومستقبلهم وسط ما يحدث.

• ماذا عن المفارقات التي استوقفتك في كفرنبل إلى جانب الحراك المدني والناشطين؟ ـ النشطاء عُرض عليهم الكثير من الفرص ليخرجوا من سورية ويقيموا مع عائلاتهم في الولايات المتحدة لأنهم على تواصل دائم مع العالم الغربي والصحافة الغربية. فـ «رائد» كُتب عنه في «نيويورك تايمز» وعُرضت عليه أكثر من فرصة لأخذ عائلته ومغادرة سورية لكنه رفض. هذا الأمر حصل أيضاً مع غالية ونشطاء كثر آخرين فهم مثال عن مئات وآلاف قرروا البقاء، وفي رأيي أن هؤلاء الناس الذين بقوا في سورية هم مَن يحق لهم تحديد مستقبل سورية.

• هل وُجه إليك اللوم كلبنانية على مشاركة «حزب الله» في الحرب السورية؟ ـ البعض لم يعرف هويتي، فمَن عرفها كانوا قلة، لأنني دخلت إلى سورية كفرد من عائلة قريبة لأم موسى ـ على أساس أنني قريبة كنّتها من لبنان. فأنا لم أكشف عن هويتي. بالطبع هناك عتب كبير، ولكن السوريين يعرفون أيضاً أن لبنان منقسم ولا يلومون كل اللبنانيين. بل يلومون المتحالفين مع النظام؛ وهم يعلمون أن الحكومة اللبنانية لا يمكنها القيام بشيء في هذا الإطار، ويعرفون أن فريق 14 مارس أو المستقلون أو أي أحد معارض لوجود حزب الله في سورية لا يمكنه ردعه. هم يعلمون أن هذا القرار ليس قراراً لبنانياً بل إيراني، وهم يعتبرون أن اللبنانيين والسوريين هم في نفس الخندق ويواجهون نفس المشكلة.

• كيف سيتم عرض المواد التي سجّلتِها وعملت عليها؟ ـ هناك ما عُرض على شاشة «أم تي في» حول المسيحيين، وأنا الآن بصدد تحضير وثائقييْن لمحطة سكاي نيوز عن الحراك المدني وسأكتب مقالات للصحافة الأجنبية.

• ماذا عن وضع المسيحيين في إدلب، هل هو صعب وسيئ عليهم بالتحديد أم ان ظروفهم تأتي من ضمن الوضع العام الذي تواجهه كل المنطقة؟ ـ هو مثل الكل، وحتى المسيحيين يعتبرون أن المشكلة ليست عليهم فقط بل على الكل. واللافت أن في منطقة الريف حيث كنا، والقريبة من الجنودية واليعقوبية، هناك قرى علوية نزح عنها كل أهلها وباتت فارغة تماماً. وفي حين بقي نحو 200 - 300 مسيحي في كل قرية من أصل 2000 - 3000 مسيحي، لم يبقَ أي علوي. وحين أجريتُ مقابلة مع أحد قادة «أحرار الشام» سألته: «ألم تجدوا أقله شخصاً واحداً علوياً ليكون معكم؟»، أجاب أن مشكلتهم ليست مع طائفة بل مع أناس متحالفين مع النظام أكانوا سنّة أو علويين أو مسيحيين لا فرق. وأشار إلى أن من الطبيعي أن يكون العلويون أكثر اناس مستهدَفين، بما أنهم في غالبيّتهم موالون للنظام وإن لم يكونوا موالين فهم خافوا ورحلوا. والبعض يلفت إلى أن «العلويين خافوا ورحلوا دون أن يُوجه لهم أي خطر». وأريد الإشارة هنا، إلى أنه لا بد عند الحديث عن سورية أن نتذكر أن ما يجري هو حرب، ورغم ذلك هناك اليوم هامش من الحرية. والناس يتكلمون عن الجماعات المسلحة بحريّة، الأمر الذي لم يكونوا يتجرأون على فعله في عهد النظام. لذا لستُ خائفة على مستقبل سورية حتى بوجود جماعات مسلحة. فالناس كسروا حاجز الخوف ولن يعودوا إلى الخلف. وفي حين نجد ان مَن يقطن اليوم في الشام لا يجرؤ على انتقاد النظام، فإن من هم في إدلب ينتقدون النظام وينتقدون «النصرة» والجماعات المسلّحة، ولم يعد هناك أي خوف.