مشوار في ذاكرة مدينة على متن أسماء أمكنتها

بيروت... حكاية «أمّ الشرائع» في «ألف باء» شوارعها

1 يناير 1970 10:25 ص
• أمير الكويت الراحل الشيخ صباح السالم من القادة العرب الذين حفظت لهم بيروت وقوفهم إلى جانبها فمنحت شوارعها أسماءهم

• رحل عظماء عن الدنيا قبل أعوام وعقود إلا أن بيروت بقيت العاصمة التي منحتهم الخلود في سجلّات شوارعها

• يظل الرئيس المصري جمال عبد الناصر الغائب ـ الحاضر الأكبر في عدد من أحياء العاصمة
ما لا يُعرف عن بيروت، يفوق ما يُعرف عنها بأضعاف. صحيح أن كتب التاريخ وافرة الحكايا عن «أزمنة» العاصمة اللبنانية، لكنها غير وافية. والمعلومات الجغرافية والانتربولوجية التي تحدّثت عن طبيعة المدينة وطبائع أهلها، حَفَظَت القليل وغاب عنها الكثير.

ذلك أن بيروت هي «ستّ الدنيا»، فكيف يمكن للأقلام أن ترسم علو قامتها الممشوقة، أن تجسد ملامح حُسنها، أن تروي سيرتها منذ الأزل، هي التي حيّرت المعتدين والطامعين في سرّ «صباها» الدائم، في «أعجوبة» حيواتها، تلك التي عاشتها بين حقبة وأخرى، بين جيل وجيل، بعدما رحل الجميع، وبقيت هي.

غالب الظن أن شوارع المدينة تروي الكثير عنها؛ بضيقها واتساعها، بمنعطفاتها، بارتفاعاتها وانحداراتها. فبيروت التي هُدم السور الحجري الذي احتضنها قبل قرنين من الزمن، انفلشت تباعاً كبقعة زيت على رمال البحر المتوسط. أحياؤها الداخلية توسّعت وتشعّبت، بيوتها تراكمت وتكدّست، فشقّت الأقدام والدواب، ومن بعدها السيارات والآليات طرقاً رئيسية وفرعية، كساها التراب ثم غطاها الإسمنت ولاحقاً الإسفلت.

والتعرّف إلى العاصمة من خلال أسماء هذه الشوارع العريضة والدقيقة، النافذة وغير النافذة، أقرب إلى مطالعة «كفّها»، ليس لتوقُّع مستقبلها، بل لاستراق النظر إلى ماضيها، لإضاءة ظلمات النسيان الذي تجرأ على أحداثها بومضة... لا ستعادة مآثر رجالاتها و«قبضاياتها» هنيهة، لتذوّق متعة التجول خلسة في أرجاء ذاكرتها، لإلقاء التحية على أهلها، لتحسُّس أطلال منازل دمّرتها الحروب وتَلمُّس مساحات خضراء سلبها العمران حقها في «الحياة».

واللافت في شوارع «أم الشرائع»، أنها مرآة لحُلو المدينة ومُرها. فهي التاريخ الحديث والقديم للمدينة من ألفه إلى يائه، وهي الجغرافيا التي ضاقت واتسعت، والملامح التي تآكلت ثم نمت، لكنها ظلت حاضرة في الذاكرة بكل تبدلاتها، تحييها الألسن وينعشها الحنين.

صحيح أيضاً أن الطرق البيروتية متشابهة ومتشابكة، إلا أن أسماءها تعكس وئاماً وتناقضاً على كل مستوى. فبيروت لم تتخطَّ ما عانته قبل عقود من الزمن فحسب، بل تصالحتْ معه، فإذ بذكرى الحروب والاحتلال تصبح جزءاً روتينياً من يومياتها، وأمراً بدهياً في صباحات وأمسيات أبنائها وزوارها.

على سبيل المثال لا الحصر، قلّة من اللبنانيين يجهلون أصل تسمية شوارع «غورو»، «فوش»، «ويغان»، «كاترو»، «ديغول»، «اللنبي» في أحياء العاصمة... كتب التاريخ المدرسية قصّت على الأجيال التي تعاقبت بعد 22 نوفمبر من العام 1943 (تاريخ استقلال لبنان)، كيف وقعت بلادهم تحت الانتداب الفرنسي، وما الظروف التي مرت بها على الأثر، ولذا يذكر الكبير والصغير الأسماء الأجنبية المذكورة أعلاه. ربما لا يعرف جميعهم تفاصيل عهد كل واحد من هؤلاء «الإفرنسيين»، إلا أن المعلومة العامة الراسخة في الأذهان مفادها أن هذه الكلمات الغريبة عن معجمنا العربي ليست سوى أسماء جنرالات فرنسيين وطأوا بلادنا ليحكموها ويتحكموا بها. لكنهم عادوا أدراجهم لاحقاً إلى باريس مرغمين، بعدما انتزع لبنان استقلاله وتقهقرت الجيوش الأجنبية من أراضيه إلى ما وراء البحار.

واللبناني الذي واجه الانتداب وثار عليه حتى نيل الاستقلال، لا يدخل هذه الشوارع «معادياً»، فهي تحولت إلى «روزنامة» تختصر أبرز الأحداث التي عاشها لبنان في مطلع القرن الماضي. وهذا «المواطن» يزور بين الحين والآخر «المندوب السامي» على لبنان وسورية الجنرال غورو في منطقة الجميزة. ورغم رحيل الرجل عن هذه الدنيا العام 1946، إلا أن إقامته تكرّست في هذا الحي البيروتي، من خلال إطلاق اسمه على شارع يشتهر اليوم بمطاعمه الراقية، التي جاءت بحكم الصدفة أو لعبرة ما ذات طابع فرنسي راقٍ، وهي بذلك إن لم تذكّر زوارها بغورو نفسه، فهي تقّدم لهم أجواء باريسية ساحرة.

الجنرال كاترو أيضاً ما زال مقيماً في لبنان، واللبنانيون يزورون الشارع الذي يحمل اسمه في بدارو. كذلك كلّ من ويغان وفوش في وسط بيروت، وديغول في الروشة...

الانتقال من هذه الشوارع إلى أخرى تحمل أسماء عائلات بيروتية عريقة كالبارودي، ساسين، البيطار، الرفاعي، الحوري، الضناوي، العيتاني، السيوفي... روتيني وسلس. معلومٌ أن الأحياء البيروتية تعكس أوضاعاً اقتصادية واجتماعية متفاوتة، إلا أن ملامحها تتقارب تدريجياً إلى حد التداخل. وبالنظر إلى التسميات، فقد يجد البعض نفسه عند الدخول إلى هذه الشوارع، مستعيداً «أشجار العائلات البيروتية»، فيستذكر فلاناً أو يترحّم على علان. وغالب الظن أنه بحكم العادة سيمرّ مرور الكرام، مشدوهاً إلى مقصده، ولا سيما أن الشوارع نافذة، وأسماؤها غير ظاهرة للعيان على لافتة هنا أو هناك. والاتكال في هذا الإطار على ذاكرة البيروتي الأصل

أو الإقامة، فهو أدرى أصلاً بشعاب المدينة وشوارعها، ويعرف جيداً تلك الأزقة «الأصيلة»، التي أبت أن تُختزل بأرقام «مبهمة» تجعل من الوصول إليها معادلة حسابية مجرّدة.

أصالة هذه الشوارع تُظهر أيضاً «نوستالجيا» بيروت العزة التي لا تنام على ضيم أو «تُكسر لها شوكة». ولأن المدينة وفية وحافظة للجميل، تعبّر عن مشاعر التقدير والعرفان لـ «قبضايات» حموا الساحات وردعوا المعتدين، لميسورين طيّبوا خواطر المحتاجين والأيتام، لنافذين تفانوا في خدمة المدينة وأهلها، ولمثقفين «بيضّوا وجهها» فأرادتهم وجهاً حضارياً لها... هؤلاء رحلوا جميعاً عن الدنيا قبل أعوام وعقود، إلا أن بيروت منحتهم الخلود في سجلّات شوارعها.

سكان المدنية، يعرفون سِيَر بعض من ذُكروا آنفاً، فهم كما يقول أحدهم ما زالوا حتى اليوم «ناراً على علم». البعض الآخر غير مألوف كطلسم، يسأل الآباء الأجداد عنهم، أما الجيل الجديد الذي لم تصله المعلومة من شفاه الأكبر سناً، فسيستخدم محركات البحث الإلكترونية إذا أراد تبديد تساؤلاته، بإجابة شافية... وهو إما سيجد ضالته وإما يضل الطريق فيعود أدراجه محملاً بتساؤلات أكبر.

لعل الساسة هم الأكثر مناعة ضد النسيان، وهم نالوا نصيباً وافراً من أسماء الشوارع تخليداً لذكراهم، وبما أن اللبناني «ضليع» في السياسة، والسياسة «ضلع» مؤثر من جوانب حياته، فهو سيذكر بالتأكيد جميع الساسة الحلفاء منهم والخصوم.

وفي هذا المجال يصح القول ان اختيار الشارع المناسب للسياسي المناسب، يأخذ في الاعتبار معايير عدة. وعلى «قدر المحبة» يزداد الشارع عرضاً وطولاً والعكس. من هنا غالباً ما تخصص «الجادات» لصفوة من السياسيين هم الأكثر سلطة ونفوذاً أو يحظون بأكبر قدر من الولاء والتأييد، ولذا تتوزع الجادات والشوارع الرئيسية بالدرجة الأولى على رؤساء الجمهورية اللبنانية ورؤساء حكوماتها...

عربياً، يظل الرئيس المصري جمال عبد الناصر الغائب ـ الحاضر الأكبر في عدد من أحياء العاصمة.

«المبادئ الناصرية» في ذهن مَن يؤمنون بها إلى اليوم استحالت حنيناً في أفئدة حامليها، ولذا يدغدغ الشارع الذي يحمل اسم جمال عبد الناصر في منطقة الطيونة مشاعر «قدامى الناصرية»؛ فيترحمون في سرهم وفي العلن «على أيام القائد العربي الثائر... ناصر».

قادة عرب آخرون حفظت لهم بيروت وقوفهم إلى جانب لبنان في أيام الشدة والرخاء، فمنحت شوارعها أسماءهم كعربون وفاء وتقدير، ومنهم أمير دولة الكويت الراحل الشيخ صباح السالم الصباح، العاهل السعودي خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز، أمير دولة قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الرئيس الفرنسي جاك شيراك... واللائحة تطول وتطول فـ «المحبين كتار»، و«الأخوة لبعض»... هكذا يختصر أبو فؤاد الرجل البيروتي المسألة، قائلاً لـ «الراي»: «يللي بيشوفنا بعين منشوفو بعينتين».

وأبو فؤاد لا يعتبر نفسه مغالياً عند وصفه مسقط رأسه بـ «المدينة الكونية»، قائلا: «وحدها بيروت تسمح لزائريها بالتنقل بين عدد من الدول دون حاجة لتأشيرة أو سفر. ففيها تزورين عشرات الدول والعواصم الشرقية والغربية، كفرنسا، الأرجنتين، كندا، المكسيك، أستراليا، الكويت، سورية، فنزويلا، ليبيا، مدريد، موسكو، نيجيريا، بغداد، بيت لحم..». «هذه الدول والمدن لها مكانتها في قلب لبنان واللبنانيين، وإلا لما حضرت إلى العاصمة من أقاصي المعمورة لتمنح أسماءها لشوارع العاصمة ويقصدها الزوار هنا عندنا».

وكما في السياسة والجغرافية، كذلك في الدين. تعددية الإيمان والمعتقد تظهر جلية في «موزاييك» الشوارع اللبنانية، التي تؤشر الى طائفة سكانها الذين يتنوّعون أفقياً وعمودياً في طبقات المبنى الواحد. وبناء عليه، تتراوح تسميات الشوارع بين أسماء الخلفاء الراشدين عند المسلمين والقديسين لدى المسحيين، مروراً بأسماء أئمة وكهنة ورجال دين من الطائفتين، لم تنسَ ذاكرة المدينة أن أياديهم البيضاء مسّدت أوجاعها، وتركت في وجدانها طيب الأثر والذكر.

وفي بيروت الثقافة والانفتاح على الماضي والحاضر والمستقبل، مشاهير أجانب وعرب في الأدب والفن والفلسفة والموسيقى منحوا أسماءهم للشوارع. منهم: المتنبي، الفارابي، المنفلوطي، امرؤ القيس، المهاتما غاندي، امين الريحاني، إيليا أبو ماضي، جبران خليل جبران، لامارتين، ليوناردو دافنشي، موزارت وآخرون... في مقابل تسميات كرّسها اللسان البيروتي ومن بعده سجلّات الدولة، وأطلقت قبل ما يزيد على القرن على شوارع هي بنت بيئتها، نبتت من أرضها لتشبه أهلها وناسها. كشوارع خندق الغميق، عين التينة، ميناء الحصن، دار المريسة، ساقية الجنزير...

«العم أبو فؤاد» يعود أدراج السنين عند الحديث عن هذه الشوارع وأخرى. فيقول: «تتبدل ملامح بيروت بين عقد وآخر، فما بالك بحالها قبل مئة عام. في ذلك الوقت كانت العاصمة أشبه بقرية فيها البراري والمواشي. والبيارتة أطلقوا التسميات على الطرق والمحلات، بالاستناد إلى شجرة من هنا أو وهدة من هناك. معلم ودور أو حتى حادثة».

ويكشف «ابو فؤاد» عن ابتسامة يخبئها خلف شاربين أشعثين، ثم يدوي ضحكة متواصلة في الأرجاء، فيشير إلى أن غالبية هذه التسميات لم تعد تنفع في التنقل بين أرجاء المدينة، فالمحلات التجارية، دور السينما، المكتبات والمطاعم باتت هي المقصد والعنوان، وغالبية سائقي الأجرة لا يعرفون عن غاندي إلا أنه توفي في الهند قبل أعوام، وأن جبران خليل جبران رحل وبقي اسمه محفوراً على أغلفة كتبه وفي الأذهان.