أتمنى الشفاء لقداسة البابا شنودة، لأنه شخصية وطنية معتبرة، وأيقونة مصرية، ورمز ديني كبير، وأيضا لكي أسمع رأيه فيما سأكتب الآن حول واحدة من أشهر مقولاته.
وأشهر مقولات قداسة البابا هي: «مصر ليست وطناً نعيش فيه... وإنما هي وطن يعيش فينا»، وهي تحظى بإعجاب منقطع النظير، وتنقل عنه دون تفكير، وقد حاولت أن أجد صياغة أخرى لتلك العبارة منسوبة لقداسة البابا بطريقة: «مصر ليست فقط وطناً نعيش فيه بل أيضاً وطن يعيش فينا» ولم أجد.
المعضلة في عبارة قداسة البابا في كلمة «إنما» لأنها تعني الاستبدال، ونفي السابق، ومن ثَم فهي تعلن على لسان قداسة البابا أن الحقيقة الأكيدة هي أن «مصر وطن يعيش فينا»، وكما يعرف الجميع فإن قداسة البابا شاعر كبير، ومتمكن من اللغة، وقدرته اللغوية تفوق الكثيرين من المحسوبين على أنهم أساطين في ذلك المجال.
مصر وطن نعيش فيه بالمعنى الجغرافي المكاني، والجيو سياسي، والتاريخي، ولايوجد موقع آخر في العالم يمكن أن نطلق عليه اسم الوطن المصري بغض النظر عن موافقتي الأكيدة على المعنى القائل بأن مصر قيمة ومعنى... يعيش فينا.
الوطن بخلاف كونه معنى هو دولة وأرض، ونفي ذلك العنصر في تحديد معنى الوطن يوحي بأننا شعب بلا أرض.
ومن ثَم لا أستغرب أن عدداً من الفلسطينيين يستخدم تلك العبارة، من دون أن ينسبها إلى قداسة البابا، للإشارة إلى أوضاعهم، وللتدليل على حالة البعثرة التي يعانون منها كلاجئين ومهاجرين في مختلف أنحاء العالم، كما لا يخفى على الكثيرين أن العبارة نفسها مستخدمة في التراث اليهودي للتدليل أيضا على أنهم كانوا شعباً بلا أرض، ولا أعتقد أن هذا هو المعنى الذي يقصده قداسة البابا.
هذه العبارة في صياغتها، التي تحمل كلمة «إنما» النافية، تفعل ما يلي:
أولاً: تعطي مبرراً للاغتراب داخل الذات، وعدم التفاعل مع ما حولك، وأن تتجاهل الوطن الذي تعيش فيه رافضاً مجرياته، وأن تحول البلد إلى رمز داخل ذاتك، وأن تحتفظ به في جنبات قلبك، ومن ثَم لا أستبعد أنها عبارة أعطت ظهيراً لحالة الابتعاد التي تعامل بها عدد من الأقباط مع واقع الحياة في البلد.
ثانياً: هي تقول ان البلد الذي يعيشه المؤمنون بتلك المقولة يختلف تماماً عن الوطن الذي يتصورونه في قلوبهم وفي نفوسهم، وبغض النظر عن أن هناك أحلاماً تعتمل داخلنا جميعاً لبلدنا، فإن تلك الأحلام لا تنفي حقيقة أن البلد له كيان جغرافي وواقع معاش... فالأوطان ليست خيالاً.
ثالثاً: هذه المقولة في وجهة نظري هي الإطار الذي يبني عليه بعض من أقباط المهجر شرعية ما يقومون به في الخارج، على اعتبار أنهم يحملون في صدورهم معنى وطن غير ذلك الذي هجروا منه، ومن ثَم يعطيهم أولاً غطاءً نفسياً يبرر الهجرة، ويعطيهم ثانياً غطاءً ثقافياً وسياسياً لما يقومون به من أفعال يرفضها البابا شنودة نفسه، وفق ما يكرر ويعلن.
رابعا: هل معنى هذه العبارة لدى المواطن مسيحي الديانة هو المعنى نفسه الذي يفهمه المواطن مسلم الديانة؟ لا أعتقد. وهل المواطن القبطي الذي يعيش داخل مصر يفهمها بالطريقة نفسها التي يفهمها بها المواطن القبطي في المهجر؟ لا أعتقد كذلك.
أرجو ألا أكون قد حملت العبارة في صياغتها بـ «إنما» أكثر مما تحتمل، وأتمنى على قداسة البابا أن يعيد ترديدها بصياغة مختلفة اقترحتها هنا وهي: «مصر ليست فقط وطناً نعيش فيه، بل أيضاً وطن يعيش فينا»... وهي جملة إيقاعها الموسيقي أثقل قليلاً من الأولى، لكن المهم ليس هنا هو الموسيقى، بل المعنى الذي تشير إليه.
عبدالله كمال
رئيس تحرير «روزاليوسف» ومستشار «الراي» بالقاهرة، وهذا المقال ينشر بالتزامن مع جريدة «روزاليوسف» اليومية القاهرية