قبائل الشمال سواء التي أتت من العراق أو القبائل التي جاورتهم من الجنوب وخالطوهم واستوطنوا الجهراء نجد أن مستوى التعليم لديهم عالٍ، لو ذهبت إلى التطبيقي أو جامعة الكويت أو أي مؤسسة تربوية تجد أن هذا واقع نجد فيه الكثير من الصحة، ولا أنسى ما قاله النائب الفاضل علي الدقباسي، عندما قال إن أكبر نسبة متعلمين تجدهم في الدائرة الرابعة ولا أشك بذلك، نظراً إلى أن أكبر عدد مرشحين من حملة الدراسات العليا هم من الدائرة الرابعة! والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تطوروا وتخلفت بعض القبائل الأخرى بطلب العلم؟ وأنا أصف هنا حالة عامة، ولا أركز على بعض الحالات الفردية، وأن ما يشد انتباهي حقاً هو أهمية العلم بالنسبة إليهم منذ زمن بعيد، وليس وليد اللحظة، مما يبطل نظرية أنهم حديثو التمدن، ولهذا اهتموا بالعلم وأصبح من ثقافة القبيلة نفسها على النقيض من بعض القبائل الأخرى الجنوبية.
وإذا أردنا أن نناقش أهم النقاط نجد أن القبائل الشمالية اشتهرت بتجارتها في الماشية أكثر من القبائل الجنوبية التي كانت تتاجر بالجمال غالباً، والمهم هنا هو أن تجارة الماشية ربحيتها عالية، وذلك لكثرة التوالد وفوائد صوفها وسمادها وأمور كثيرة تدر على أصحابها المال الوفير والعيش الرغد ومفيدة أكثر من الجمال التي لا تتوالد بكثرة ولا تمثل تجارة لها قيمة مادية. كما اشتهرت نساؤها بمساعدة الرجال في الزراعة والحرث واستصلاح الأرض، مما خلق انتماء جبرياً للأرض واستقراراً اجتماعياً وأمنياً يشجع على التطوير الذاتي، سواء للفرد والعائلة وتخفيف الحمل عن الرجل على عكس القبائل الجنوبية التي لا تقوم نساؤها بدور الشماليات نفسه. ومن الأمور المهمة أيضاً أن هذه القبائل احتكت بأعرق الحضارات، وهي حضارة العراق الشقيق، فالعراق مهد الحضارات ومع مخالطة القبائل واحتكاكهم مع ثقافات كثيرة في بيئة أمنة ومتنوعة واحتكاكهم المباشر معها جعلها تقدر أهمية العلم وتتمسك به، ولهذه الأسباب تقدمت قبائل الشمال عن القبائل الجنوبية بالمجال العلمي، وذلك لطبيعة البيئة القاسية التي لم تتوافر للقبائل الجنوبية، والتي كان طلب العلم فيها سيندر، وذلك للظروف التي تعتبر معوقاً رئيسياً لتقدمها، وما يؤكد هذا الكلام البحث الممتع لجاريد دايموندز.
تلخيصاً لما قاله الباحث جارد دايموندز في بحثه الحائز على جائزة أفضل كتاب علمي في العام 2006 بعنوان «البنادق، الجراثيم والحديد» (Guns، Germs، and steel by Jared diamonds) فإن الحضارات التي تطورت وتقدمت كانت الزراعة والجغرافيا أهم العوامل لذلك التطور، ويتساءل مستدركاً: لماذا لم تستطع شعوب أميركا الجنوبية من التصدي للغزاة الأسبان رغم عددهم الكبير وقلة أعداد الأسبان، وكونه طرح هذا التساؤل، فمن الغريب فعلاً أن ترى 180 جندياً إسبانياً يستطيعون التغلب على 5000 جندي من أميركا الجنوبية، ومن المفارقات أيضاً أن ترى شعوباً إلى الآن تطارد الغزلان، ويتكلمون بلهجات تكثر فيها الطقطقة والرموز الدلالية وتفتقر إلى البلاغة وأساسيات اللغة الحديثة. وضرب الكاتب أمثلة في قبائل الزولو وأميركا الجنوبية وغينيا ليشرح بالتفصيل وجهة نظره. وهذه الشعوب لم تتطور مثل الحضارات الأخرى كأسبانيا وفارس والصين والدول الاسلامية سابقاً، وكان محور حديثه أنه إذا أرادت أي حضارة التطور وجب عليها الاستقرار أولاً، ومن ثم تركيز طاقتها على العلم والثقافة من خلال تسهيل عملية الاحتياجات الأساسية كالأكل والشرب والسكن. ولكي تصل إلى هذا المستوى وجب عليها أن تطور الزراعة والحرث والرعي لبذل أقل مجهود بدني قدر المستطاع ويتحول غالبية هذا المجهود السعي إلى التقدم في العلوم وتطوير العقل. ولهذا تجد غالبية الحضارات الإنسانية ازدهرت في داخل ما يُسمى الحزام الأخضر، ويتكون على شكل حلقة تبدأ من العراق وفلسطين الى الأعلى، لتشمل أوروبا ويعرج يميناً إلى الصين واليابان وبعض الدول، والتي تسهل فيها الزراعة ومواسمهما مناسبة لزراعة القمح والشعير وتعتبر بيئة مناسبة لتربية الماشية أيضاً، والتي لا يقل دورها أهمية، ويقول إن من أسباب تخلف الحضارات هي أنها لم تملك وقتاً، لكي تطور علومها، لأنها تركز طاقتها في البحث عن الطعام والماء وبذل مجهود مضنٍ لذلك، فقبائل الزولو لا تعرف كيف تزرع، وسكان أميركا الجنوبية لا يملكون أراضي خصبة للزراعة إلا في الجبال، مما يزيد من مشقة الأمر ويشتت طاقتهم وتركيزهم نحو تطوير الأمور العلمية والفكرية عموماً.
تذكرت هذه القصة اللطيفة التي تبين لنا مدى تأثير البيئة والمحيط على الشخص، رغم حسن النوايا والأهداف وأنقلها لكم بتصرف.
قدم علي بن الجهم على المتوكل، وكان بدوياً جافياً، فأنشده قصيدة يقول فيها:
«أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلواً
من كبار الدلا كثير الذنوب».
فعرف المتوكل قوته، ورقّة مقصده وخشونة لفظه، وذلك لأنه وصف كما رأى ولعدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة فيها بستان يتخلله نسيم لطيف والجسر قريب منه، فأقام ستة أشهر على ذلك ثم استدعاه الخليفة لينشد، فقال:
«عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
خليلي ما أحلى الهوى وأمـره
أعرفني بالحلو منه وبالمرّ!
كفى بـالهوى شغلاً وبالشيب زاجراً
لو أن الـهوى مما ينهنه بالزجر
بما بيننا من حـرمة هل علمتما
أرق من الشكوى وأقسى من الهجر
وأفضح مـن عـين المحب لسّره
ولا سيما إن طلقت دمعة تجري».
فقال المتوكل: «أوقفوه، فأنا أخشى أن يذوب رقة ولطافة»!
مبارك الهزاع
كاتب كويتي
[email protected]