حين يقسو الوطن

1 يناير 1970 12:58 ص
بنهايةٍ حزينة؛ ختم الكاتب الكويتي سعود السنعوسي روايته الجميلة «ساق البامبو»، والتي استقى أحداثها من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي عاصرها المواطن الكويتي عَقِب الطفرة النفطية في سبعينيات القرن الماضي. هذه الرواية التي تم ترشيحها للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) للعام 2013 وفازت بها عن جدارة تستحق الإشادة والثناء.

رواية ساق البامبو التي امتازت بعنوانها الغريب عن البيئة الخليجية وغلافها الجميل؛ قال فيها المؤلف: «لو كُنتُ مثل شجرة البامبو، لا انتماء لها. نقتطع جزءا من ساقها... نغرسه بلا جذور في أي أرض... لا يلبث الساق طويلا حتى تنبت له جذور جديدة.. تنمو من جديد.. في أرض جديدة... بلا ماض... بلا ذاكرة... لا يلتفت إلى اختلاف الناس حول تسميته.. كاويان في الفلبين.. خيزران في الكويت.. أو بامبو في أماكن أخرى».

عيسى بالعربية أو هوزيه كما يُنطق بالفلبينية، هو بطل الرواية. هو ابن شرعي لعلاقة قامت بين شاب كويتي يدعى «راشد الطاروف» ومن خادمة العائلة الفلبينية «جوزافين». ولِدَ في الكويت ورفضت عائلة والده الاعتراف به، فاضطر راشد أن يرسل جوزافين وولدهما للفلبين رضوخا لضغوط العائلة؛ ليطلّقها فيما بعد ويتزوج غيرها. وخلال تلك الفترة لم ينقطع راشد عن مراسلة طليقته وإرسال النقود لها حتى انقطعت أخباره لتبدأ جوزافين رحلة المعاناة في البحث عنه أو الحصول على أي خبر عن حاله وصحته.

عاشت جوزافين وولدها مرارة الحياة في الفلبين وذلك مع والدها المقامر الكبير، وعاشق صراع الديكة، والذي كان لا يتورع أن يقامر بكل ما يملك من أجل الحصول على المال والمقامرة به. في هذه البيئة عاش هوزيه في بيت جده البسيط والذي تحيطه حديقة تُسوّرها أشجار البامبو الضخمة، والتي عاش معها طفولته، وبين ربوع الفلبين وجبالها وغاباتها، وشوارعها المزدحمة.

لقد قضى هوزيه فترة من التوهان، فيقول: «لو ولدت لأب وأم كويتيين، مسلما، أسكن في بيت كبير... أستيقظ صباح كل يوم لأذهب إلى عملي الذي اخترته بنفسي، مرتديا تلك الثياب الفضفاضة مع غطاء الرأس التقليدي... أجلس في المقاهي والمطاعم الفخمة من دون أن يتهامس البعض مستنكرا وجود أمثالي.. أذهب إلى المسجد يوم الجمعة وأستمع إلى الرجل الواقف خلف المنصة وأفهم ما يقول» ثم يتابع قائلا: «لو ولدت لأب وأم فلبينيين، من طينة واحدة. أعيش مسيحيا، ميسور الحال، مع عائلتي في مانيلا، أغوص كل يوم في زحمة البشر... أو مسلما فقيرا أعيش بطمأنينة بين جماعتي جنوبا، في مندناو، لا أخشى الجوع وضغوطات الحكومة... أو بوذيا من أصول صينية، أعمل مع والديّ في أحد متاجر الحي الصيني في مانيلا».

وخلال فترة وجوده ووالدته في الفلبين، اكتشفت جوزافين من خلال مكالمة هاتفية أن راشد قد تم أسره من قبل القوات العراقية أثناء غزوها الكويت، ثم فُقد لفترة زمنية طويلة إلى أن وجد مدفونا في العراق، ونُقل بعدها للكويت ملفوفا بعلمها ودفن تحت ثراها. عاد هوزيه لوطن والده، ووطنه الكويت... غريبا، كويتي يحمل ملامح فلبينية، في المطار لا يعلم أين يقف في طابور الأجانب أم طابور المواطنين، ليبدأ مع هذه التجربة رحلة الغربة.. في وطنه الكويت.

أبدع الكاتب في نقل أنواع المعاناة التي تعرض لها عيسى في الكويت من رفض عائلة والده له مجددا باستثناء أخته من أبيه؛ خولة، التي كانت له عونا وسندا، وسعت ما استطاعت في أن تذلل له الصعاب في مواجهة أفراد العائلة الرافضين لعودة هذا الولد الغريب!

وبعد موافقة جدّته وبإلحاح من خولة، انتقل عيسى بعدها للعيش في ملحق تابع لمنزل العائلة ليكون قريبا منهم على أنْ يبدو كأنه جزء من الخدم وليس العائلة، وشريطة أن يبقى نَسبُه سرا خاصة عن الخدم الآخرين. تقبّل عيسى الوضع مسرورا، ذلك لأنه لأول مرة يعيش بجوار المكان الذي كان يعيش فيه والده، وبالقرب من مكتبته التي كان يقضي فيها والده معظم أوقاته للقراءة أو الكتابة. تعرّض عيسى لعدة صدمات متتاليات وكانت إحداها سببا لتركه منزل والده نهائيا. ثم جاء اليوم الذي يبوح فيه عيسى بسرّه لأحد الشباب الكويتيين الذين كان قد التقاهم في أحد الجزر السياحية في الفلبين. كان الشاب يُدعى «جابر» ابن أم جابر جارة عائلة الطاروف، لينتقل الخبر على إِثْره كالنار في الهشيم بين الجيران والعائلات الكويتية بأن راشد لديه «ابن زنا» في الكويت من خادمته الفلبينية، وتبدأ مع هذه الحكاية نهاية القصة الحزينة والواقعية في نفس الوقت.

عاش عيسى في الفلبين فقيرا ولكن لديه وطنا يضمه وعائلة تُحبه، بينما في وطنه ووطن أبيه؛ الكويت، عاش غريبا ولديه الكثير من المال لكن لا عائلة له ولا يجد من يحبه، بل وجد الكثير ممن يكرهه ويتمنى اختفاءه. هذه الحالة القاسية من التوهان بين وطنين مختلفين خلقت في نفسه تناقضات الحنين لموطن الأب، وألم فراق الأم والعائلة في الفلبين.

رواية معاصرة تختلف عما نقرأه يوميا في الأدب العربي الحديث. جرأة في الطرح من غير مباشرة، قدّم فيها الكاتب صورا لبعض أنواع المعاناة التي يواجهها البدون، كما أثار موضوع الآفات الاجتماعية وأهمها العائلة ومكانتها، ومن زاوية أخرى عرَض لبعض أصناف المعاناة التي يواجهها الخدم أو مخدوموهم في الكويت.

رواية تستحق جائزة البوكر لهذه الأسباب ولغيرها الكثير. وهنا أنا أفسح لك المجال لتكتشف بنفسك الصور الجمالية والبلاغية في الرواية والتي تعددت كثيرا، ما جعلها عملا روائيا متكاملا على جميع الصُّعُد.

[email protected]