اول لافتة تصادفها لدى دخولك الى القاهرة تحمل عبارة: «وقفة مصرية»، وقبل ان تأخذك الهواجس بعيدا في تفسير طبيعة «الوقفة» تباغتك فورا اللافتة المكملة: «نحكم عقلنا نتعلم كلنا». هي، اذا، «وقفة» من اجل العلم، لكن التفسير ايضا يخونك لان اللافتة الثالثة تحمل عبارة: «نحكم عقلنا نتعالج كلنا». هنا لا مجال سوى لتفسير آخر للاعلان، هو ضرورة تحكيم العقل لان اللافتات المتلاحقات تقول: «نحكم عقلنا ناكل كلنا... نشتغل كلنا... نشرب كلنا... نشبع كلنا...». يلي ذلك: «وقفة مع نفسنا لمصلحتنا كلنا» ليزداد الفضول لمعرفة حقيقة «الوقفة» المطلوبة، ثم ينجلي ذلك كله مع العبارة في اللافتة الاخيرة: «... وقبل ما ينولد مولود... نتأكد ان حقه علينا موجود».
الاعلانات المتلاحقة هي جزء من حملة كبيرة لتحديد النسل في مصر حيث صار التزايد المستمر خطرا يهدد الاستقرار الاجتماعي والامن القومي كما جاء في المؤتمر القومي الثاني للسكان الذي كشف ان مصر باتت بملايينها الثمانين تحتل المرتبة السادسة عشرة بين الدول الاكثر كثافة سكانية في العالم، وان عدد السكان سيصل الى 100 مليون نسمة عام 2025 والى 160 مليون نسمة عام 2050. اما «الوقفة» المطلوبة فهي من المصريين كي يخففوا ما امكن من الانجاب ويقنعوا بتكوين اسر صغيرة انما مرفهة او قادرة على العيش الكريم في اضعف الايمان حتى يصل عددهم الى 120 مليوناً عام 2050 اي اقل باربعين مليونا مما هو متوقع... ولكن هل تمر مثل هذه الحملة مع المصريين مرور الكرام؟
الحاج محسن سائق التاكسي ينسى في غمرة تعليقه على اللافتات التي تملأ القاهرة ان في سيارته نساء. يطلق للسانه العنان وهو يعلق: «دول بقى عاوزين نومة مش وقفة». تجيبه باستحياء ان المنطلقات سليمة ومنطقية وواقعية والمستقبل فعلا في خطر، يرد: «يعني الحكومة سابت كل المشاكل والفضايح وحصرت الازمة في غرف نومنا. طب ايه رأيك تعمل هي بقى الوقفة وتحكم عقلها وتخف عنا شوية».
لكن حملة تحديد النسل جدية اكثر مما سبق في مصر، وهناك مسعى حقيقي لاعادة رسم الخريطة السكانية من اجل تحقيق توزيع جغرافي افضل للسكان، والاستفادة القصوى من الطاقات البشرية، ولذلك سيتم اشراك القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني في الحملة ومراجعة تحرك وزارة الصحة والمجلس القومي للسكان بشكل دوري وتركيز الحملة على المناطق الاكثر حاجة للتوعية واشراك رجال الاعلام.
ولم تترك المدونات الحملة من دون التعليق عليها، فمن قائل «يا أخ يا أخ انت واقف في مكاني ده محجوز» او «وقفة مصرية... هو في حد وقف؟» او «قوم اقف وانت بتكلمني»، لكن الحاج محسن سائق التاكسي لا يخضع لقوانين الطباعة والنشر: «قال ايه عاوزيني الغي تلات خميسات من الشهر واكتفي بخميس واحد. يعني تبص تلاقي التلات والاربع وهوبا... الجمعة طوالي. كده اكون مواطن صالح يحترم الامن القومي واكون عملت وقفة من غير وقفة». ويستفيض في «السياسة الجنسية» شارحا ان الحكومة «بتغار مننا عشان احنا قادرين وهي مش قادرة... خدت كل حاجة ومش عاوزة تسيبلنا حاجة. طب يا سيدي انا عندي حل، خليها تخصخص المعاشرة الزوجية وتسلمها للقطاع الخاص ما هي بتبيع البلد كله للقطاع الخاص. بحيث ان اللي عمل وقفة من غير وقفة واثبت الكلام ده فعلا زي انو مثلا قضى ليلة الخميس كلها بيشتغل على التاكسي بتاعه وما روحش البيت الا صباح الجمعة والعيال كلهم قاعدين وكاتمين على نفسو في البيت. ده لازم ياخد حاجة اسمها بدل وقفة... ويا ريت بالدولار. تبقى المسائل كلها نايمة والفلوس واقفة. مش كلو نايم في نايم».
تقول له ان الفقر في الصين اكثر وان تجربة الصين في تحديد النسل بمولودين نجحت بل ترافقت مع عقوبات قانونية مثل السجن والغرامة. يضحك الحاج محسن من كل قلبه ويلتفت اليك: «حلوة دي يا بيه حلوة اوي. يعني ليلة الخميس لما تدق الشرطة الباب لازم تكون معاي ورقة ان عندي ولد واحد بس واقدر اجيب التاني. ولو ما كانتش عندي وخدوني المحكمة علشان وزارة الداخلية في البيت بتضغط لجل وقفة وقال لي القاضي تهمتك ايه؟ ايدي على راسك اقولو ايه؟ جاوب يا فيلسوف يا خواجا». ترد وقد بلغ منك الاحراج مبلغه ان هذه قضايا علمية وان المعاشرة لا يجب ان تؤدي بالضرورة الى الانجاب فهناك موانع يمكن استخدامها ووسائل يمكن اتباعها. يصرخ الحاج محسن: «موانع؟ ما دي برضو تنفع لو خصخصوا الوقفة الجديدة. بس عايز احكيلك عن الفرق بين اللي بيستحمى بهدوم وبين اللي بيستحمى من دون هدوم». عند هذه النقطة تطلب من التاكسي التوقف وتترجل من السيارة مفضلا تاكسي آخر ودردشة جديدة وفلسفة اعمق. لكنك تلتزم الصمت تماما لان الاعلان الماثل امامك يقول: «اوقفوا ختان البنات».