الإسلام لم يحرّم اكتساب المال والتزوّد منه ... إنما الطرق المحرّمة في كسبه وإنفاقه

وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ...

1 يناير 1970 11:08 ص
• الإسراف مرتبط بمختلف جوانب الحياة المادية والمعنوية يترتب عليه الكثير من المفاسد الدينية والدنيوية التي تُدّمر المجتمعات

• المال عصب الحياة ومصدر قوة الأمة وهو في الأصل مال الله أعطاه للإنسان وديعة لينفقه على نفسه وعلى مجتمعه في سبيل الخير

• يختلف الإسراف عن الكرم رغم أن كلاً منهما عطاء لكن الكرم يكون وفق أصول الشرع وإنما الإسراف قرين الكبر والمَخيلة

• تتعدد أشكال الإسراف وأنماطه ... أبشع صوره عندما يكون في معصية الله والتعدّي على حدوده وهو محرّم بالإجماع!
من النعم التي أنعم الله بها على العباد المال، وهو نوع من أنواع الزينة في هذه الحياة الدنيا: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف:46).

ولا شك أن المال ضروري لقيام حياة الناس في مصالحهم ومعاشهم، والعقلاء من الناس يعلمون هذه الحقيقة، ولهذا تراهم لا يبددون أموالهم فيما لا يجدي نفعاً في دنياهم أو أخراهم.

وكما أمر الله تعالى أن يكتسب العباد أموالهم من حلال طيب كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) (البقرة: من الآية168).فإنه نهاهم عن إضاعة المال وإعطائه السفهاء فتفوت بذلك مصالح كثيرة ويكون الفقر والحاجة:(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: من الآية5).وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الله كره لكم ثلاثا»، ذكر منها «إضاعة المال».

من أجل ذلك حرم الله الاعتداء على الأموال بأي صورة من الصور فقال عز وجل: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188).

كما حرم السرقة ووضع حداً للسارق يقام عليه بعد ثبوت ارتكابه السرقة: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (المائدة:38).إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي تحرم الاعتداء على الأموال وإضاعتها.

ومن صور إضاعة المال الإسراف، وهو من مساوئ الأخلاق التي تعود على صاحبها وعلى المجتمع والأمة بالكثير من الأضرار فإن الله عز وجل قد نهى عباده عنه فقال: ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ( الأعراف:31).

وقال تعالى ممتدحا أهل الوسطية في النفقة الذين لا يبخلون ولا يسرفون: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).

وقال عز وجل: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا وتصدقوا من غير سرف ولا مخيلة».

ولأن الإسراف مرتبطٌ بمختلف جوانب الحياة المادية والمعنوية ؛ الأمر الذي يترتب عليه الكثير من المفاسد الدينية والدنيوية التي تُدّمر المجتمعات، وتقضي على الأخلاق، وتعبث بالاقتصاد، وتؤدي إلى الكثير من المضار والآثار السيئة التي يأتي من أعظمها أن الله تعالى لا يُحب المسرفين.

تتعدد صور الإسراف وأشكاله وأنماطه التي علينا جميعاً الحذر منها والحرص على اجتنابها وعدم الوقوع فيها لما يترتب عليها من نتائج مؤسفةٍ ومضار عظيمة تؤدي في مجموعها إلى تحقيق مقولة «الإسراف سبب كل جفاف» لاسيما وأن الجفاف نتيجة حتمية لسوء استعمال الشيء حتى ينفد وينتهي فلا يبقى منه شيء.

فلماذا الإسراف ؟ ولماذا لا نحرص على تجنبه والبعد عنه ؟ ولماذا لا يكون لنا عظةٌ وعبرة في كثيرٍ من المجتمعات التي تشتكي الفقر والحاجة بعد أن كانت في خيرٍ ونعمة ؟ ولماذا لا نكون من الحامدين لله تعالى، والشاكرين له على نعمه، والمحسنين لاستخدامها في كل شأنٍ من شؤون الحياة ؟

الإسراف: هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، وهو في الإنفاق أشهر، يقول تعالى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (31) سورة الأعراف.

وهو يشمل كلّ تجاوز في الأمر، وقد جاء في القرآن الكريم على معانٍ متقاربة ترجع جميعها إلى الأصل اللغوي، وهو التجاوز في الحد.

والإسراف من أهم مظاهر الترف في إنفاق الأموال وتبديدها دون ضرورة مما يحرم مستحقيها فيشيع من جراء ذلك البؤس والشقاء في الطبقات الكادحة، ومن البؤس والشقاء يتفجر الحقد، وتروج الرذيلة، وينبت الإجرام.

فالإسلام يرى: أن مال كل فرد هو مال الأمة، وهو في الأصل مال الله أعطاه للإنسان وديعة لينفقه على نفسه وعلى مجتمعه في سبيل الخير، وهذا ما صرح به القرآن:(وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) ? النور:33 (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) الحديد:7

فإسراف الغني في إنفاق المال وتبذيره بغير الطرق المشروعة هو اعتداء على مجموع الأمة، لأن المال عصب الحياة ومصدر قوة الأمة، به تنشأ المعامل التي تؤوي العاطلين عن العمل، وبه تستصلح الأرض للزراعة، وبه تحصل الأمة على السلاح الذي يقيها من اعتداء الغير، وغير ذلك مما فيه رفاهيتها وصلاحها.

ولهذا يأمر الإسلام الحكام أن يكونوا عيناً على تصرفات الأفراد ليحولوا بينهم وبين كل إسراف وتبذير لأموال الأمة بغير حق، ولقد وصف الله المبذرين بالسفه، وأمر بالحجر على أموالهم.

قال سبحانه وتعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) النساء:5

في هذه الآية إشارتان بليغتان في النهي عن التبذير:

الأولى- قوله تعالى (أموالكم) ليلفت الأنظار إلى أن مال السفيه، هو مال الأمة.

الثانية - قوله تعالى: (التي جعل الله لكم قياما) أي أن الأموال جعلها الله لتقوم عليها مصالحكم فيجب المحافظة عليها وعدم إعطائها للسفيه.

ولقد راج التبذير في مجتمعاتنا، وهذا ما ينذر بأوخم العواقب، ولهذا نهى الإسلام عن الإسراف و التبذير فقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف31

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)

والإسراف كما يكون من الغني فإنه يكون من الفقير، ولهذا قال سفيان الثوري رضي الله عنه: «ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سرف، وإن كان قليلاً»، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنه: «من أنفق درهماً في غير حقه فهو سرف».

الإسراف يكون أيضا في الذنوب والكفر قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) (53) سورة الزمر.

والإسراف صفة من صفات الكافرين؛ يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ) (127) سورة طه. وهو صفة من صفات الجبارين الذين يملكون بأيديهم السلطة والمال، يقول تعالى: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (83) سورة يونس. وقال تعالى: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) (151) سورة الشعراء.

*العلاقة بين الإسراف والتّبذير

والإسراف والتبذير، يلتقيان في معنى الإنفاق بغير طاعة، ولكنَّ الإسراف أعمُّ من التبذير؛ لأنَّ التبذيرَ معناهُ التفريقُ، وأصلُه إلقاءُ البذر في الأرض، واستُعير لكلِّ مضيّعٍ مالَهُ، يقول تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (27) سورة الإسراء.

*العلاقة بين الإسراف والسّفه

والإسراف والسفه يلتقيان في معرض الغفلة والطيش وخفة النفس ونقصان العقل، وإنَّ ما يحصل من السفيه في إنفاق المال بما لا يُرضي الله ليُبيِّن الحقيقةَ في أنَّ السفه سببٌ من أسباب الإسراف.

*المقارنة بين الإسراف والكرم

ويختلف الإسراف عن الكرم رغم أنَّ كلاً منهما عطاء، لكن الكرم يكون وفق أصول الشرع، مثل: إطعام الضيف، وإكرام الفقير، ومنه: فإنَّ البخل ضد الكرم، وليس ضد الإسراف، وإنما الإسراف ضد الاعتدال والاستقامة، والإسراف قرين الكبر والمَخيلة يظنُّ المسرف أنَّ له فضلاً بإسرافه، فيُصيبه الكبر والبطر، والإسراف كما يكون من الغنيِّ، فقد يكون من الفقير أيضاً؛ لأنَّ الإسراف في هذه الحالة أمر نسبيٌّ.

*أبشع صور الإسراف

لقد قدم الإسلام للبشرية منهجاً متكاملاً وتصوراً واضحاً عن طبيعة التصرف في جميع شؤون الحياة، وبين بشكل واضح حدود الحلال والحرام فيها، ونهى عن الإسراف في شتى صوره، وإن أبشع صور الإسراف عندما يكون في معصية الله والتعدي على حدوده، فهو محرم بالإجماع!

*ضابط الإنفاق في المباحات

وأما الإنفاق في المباحات فيجب الالتزام بالعدل والاستقامة والتوسط فيها، حتى لا يتحول الإنفاق على المأكل والمشرب والملبس إلى البذخ والتفاخر والتعالي على الناس!

*شرُّ مواضع الإسراف

بل إنَّ شرَّ مواضع الإسراف أن تقام الولائم العظيمة ويدعى إليها الأغنياء، ويحرم منها الفقراء، وإنَّ ما يلقى منها في الفضلات ليُشبع خلقاً كثيراً من أهل الحاجة في مناطق المجاعة.

*بذل المال في سبيل الله لا يكون إسرافاً

وأما المبالغة في بذل المال طاعةً لله وفي سبيله، فلا يكون إسرافاً، وإن كان هذا البذلُ مشروطاً بألا يُضيِّع المنفِقُ من يعول، ويذرَ ذريته عالةً على الناس.

*الإسراف في مجال العقوبات والحدود

وفي مجال العقوبات والحدود، فإنَّ الشَّرع قد أقرَّ عقوبات محددة على أفعال معلومة، ولا يجوز التجاوز في تنفيذها عن حدها المقرر، وقد شدد الإسلام على الالتزام بهذا المنهج في قوله تعالى: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (33) سورة الإسراء. أي لا يتجاوز في القتل إلى غير القاتل من إخوانه وأقربائه كما كان يفعل أهل الجاهلية قديماً، وكما هو الحال اليوم مع أهل الجهل حيث تنتشر أعمال الأخذ بالثأر التي تتعارض مع أحكام الإسلام.

*لا بدّ من القصد في الأمور كلّها

من طبيعة البشر التوسعُ في النفقات، والمبالغة في الاستهلاك، وهدرُ الأموال عند أول شعور بالثراء واليسار، ولا يعرفون أيَّ معنىً لوفرة المال إذا لم يصاحبها استهلاك أكثر، ورفاهية وتمتع بالكماليات أوسع، وقد صرح القرآن بأن من طبيعة الإنسان السرف عند الجِدَة، وتجاوز حدود القصد والاعتدال، قال الله تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) (6 - 7) سورة العلق. وقال تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء) (27) سورة الشورى.

*الإسراف ضدُّ القصد

وضدُّ القصد السرف وهو منهيٌّ عنه كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف. ومن دعاء عباد الله الصالحين: (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (147) سورة آل عمران.

* الإسراف في الأطعمة

والإسراف في شراء الأطعمة وأكلها أو رميها من مواطن النهي الجلي في القرآن، قال تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (141) سورة الأنعام. وكذا الإسراف في الملابس والمراكب والأثاث وغيرها محرمٌ كما قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (31) سورة الأعراف. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ) 2.

* التَّشديد في النهي عن السَّرف

لماذا يُنهى عن السرف، ولماذا هذا التشديد في النهي عن السرف؟

ما كان ذلك إلا لأجل الحفاظ على الأموال والموارد التي يُسأل عنها العبدُ يوم القيامة؛ فهو يُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ والسرف يعارض حفظ المال، بل يتلفه ويؤدي إلى إفقار نفسه، ومن ثم إفقار أهل بيته وقرابته وأمته، والله تعالى كره لنا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال!

إنَّ حفظ المال فيه حفظُ الدين والعرض والشرف، والأممُ التي لا تمتلك المال لا يحترمها الآخرون، والشخص الذي ليس له قوة من مال أو جاه لا ينظر الناس إليه ولا يأبهون به، ومن أجل ذلك قال الحكماء: من حفظ ماله فقد حفظ الأكرميْن: الدين والعرض.

*السَّرَف طريقٌ محرّم في الإنفاق

إنَّ الشريعة الإسلامية لم تحرم اكتساب الأموال ونماءها والتزود منها، بل حضَّت على ذلك، ولكنها حرمت الطرق المحرمة في كسبها وإنفاقها، وإن من الطرق المحرمة في إنفاقها السرف فيها وإهدارها بغير حق، إما في سفر باذخ محرم، وإما في حفلة زواج باهظة الثمن، ولو تأملنا في ما ينفق من أموال على السفر إلى بلاد الكفر والفجور لوجدناه يعدل ميزانيات دول كاملة، وما ينفق على حفلات الأعراس التي يلقى فائض أطعمتها في النفايات يساهم في إنقاذ الملايين ممن يموتون جوعاً، وفي كل عام يموت الآلاف من البشر جوعاً؛ فهل من حفظ المال هدره بأي طريقة؟ وهل من شكر الله تعالى على نعمته إنفاقه فيما يسخطه سبحانه وتعالى؟!

*شيوع ظاهرة السّرف في الإنفاق

إن السرف في الإنفاق في العصور المتأخرة تحوَّل من سلوكٍ فرديٍّ إلى ظاهرةٍ عامة تجتاح الأمة كلها؛ فالواجد يسرف، والذي لا يجد يقترض من أجل أن يسرف ويلبي متطلبات أسرته من الكماليات وما لا يحتاجون إليه، وهذا من إفرازات الرأسمالية العالمية التي أقنعت الناس بذلك عبر الدعاية والإعلان في وسائل الإعلام المختلفة.

أيّها المسرف ... احذر !



هل من معاني الأخوة في الدين أن تستمتع بما أعطاك الله فيما حُرِّم عليك وأنت ترى مآسي إخوانك المسلمين؟! ولو لم يوجد مسلم على وجه الأرض يحتاج إلى جزء من مالك يسدُّ رمقه ويبقي على حياته لمَا حَسُن بك أن تهدر مالك في غير نفع؛ فكيف والمسلمون في كل يوم يموت منهم العشرات بل المئات من جراء التجويع والحصار والحرمان؟!

إن عدم الاهتمام بذلك قد يكون سبباً للعقوبة وزوال الأموال، وإفقار الناس؛ حتى يتمنوا ما كانوا يُلقون بالأمس في النفايات -عياذاً بالله- وكم يمر بالناس من عبر في ذلك ولكن قلَّ من يعتبر؛ فكم من أسر افتقرت من بعد الغنى؟! وكم من دول بطرت شعوبها وأسرفت على نفسها فابتلاها الله بالحروب والفتن التي عصفت بها، فتمنَّى أفرادها بعض ما كانوا يملكون من قبل؟! والتاريخ مليء بأحداث من هذا النوع؛ فالمعتمد بن عَبَّاد -رحمه الله- كان من ملوك الأندلس، ويملك الأموال الطائلة، والقصور العظيمة، ولما اشتهت زوجتُه وبعضُ بناته أن يتخوَّضن في الطين أمر بالعنبر والعود فوُضع في ساحة قصره، ورُشَّ عليه ماءُ الورد وأنواع من الطيب، وعُجِن حتى صار مثل الطين؛ فتخوَّضت فيه أسرته المترفة, وما ماتت تلك الأسرة المترفة حتى ذاقت طعم الفقر وألم الجوع؛ إذ استولى «يوسف بن تاشفين» على مملكة ابن عباد، وكان النسوة اللائي تخوَّضن في العود والعنبر لا يجدن ما يأكلن إلا من غزل الصوف بأيديهن الذي لا يسد إلا بعض جوعهن. وهذا أبو عبد الله الزغل من آخر ملوك غرناطة الأندلسية باع أملاكه فيها بعد أن استولى عليها النصارى، وحمل مالاً عظيماً قُدِّر بخمسة ملايين من العملة المعروفة آنذاك, ورحل إلى إفريقيا, فقُبِض عليه وصودرت أمواله، وسُملت عيناه, ورمي في السجن بسبب بيعه غرناطة للنصارى وتخليه عنها، ولما خرج من السجن لم يجد من يطعمه ويؤويه، فأخذ يستعطي الناس في الأسواق، ويطوف وعلى ثيابه رق غزال مكتوب عليه: «هذا سلطان الأندلس العاثر المجد» لعل من يراه يرحمه ويعطيه بعض المال.

لقد أبان لنا التاريخ عاقبة المسرفين كانت ذلاً وخسرانا؛ فواجب علينا الا نطغى إذا أُعطينا؛ بل نشكر المنعم سبحانه بتسخير نعمه لطاعته والاقتصاد في الإنفاق؛ فذلك خير لنا في الدنيا والآخرة، وهو سبب حفظ المال.

آثارُ الإسراف



للإسراف آثارٌ ضارَّة وعواقب مهلكة، سواء على العاملين أو على العمل الإسلاميِّ، وإليك طرفاً من هذه الآثار:

(1) علَّة البدن:

أي أن الأثر الذي يتركه الإسراف: إنما يكمن في علة البدن ذلك أن هذا البدن محكوم بطائفة من السنن والقوانين الإلهية بحيث إذا تجاوزها الإنسان بالزيادة أو بالنقص تطرقت إليه العلة وحين تتطرق إليه العلة فإنه يقعد بالمسلم عن القيام بالواجبات والمسؤوليات الملقاة على عاتقه أو المنوطة به.

(2) قسوة القلب:

والأثر الثاني الذي يترتب على الإسراف: إنما هو قسوة القلب ذلك أن هذا القلب يرق ويلين بالجوع أو بقلة الغذاء ويقسو ويجمد بالشبع أو بكثرة الغذاء سنة الله {ولن تجد لسنة الله تحويلا} وحين يقسو القلب أو يجمد فإن صاحبه ينقطع عن البر والطاعات، والويل كل الويل لمن كانت هذه حاله {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} وحتى لو جاهد المسلم نفسه وقام بالبر والطاعات فإنه لا يجد لها لذة ولا حلاوة بل لا يجني من ورائها سوى النصب والتعب ( ... ورب قائم حظه من قيامه السهر) .

(3) خمول الفكر:

والأثر الثالث الذي يترتب على الإسراف إنما هو خمول الفكر ذلك أن نشاط الفكر وخموله مرتبط بعوامل عدة ، البطنة أحدها، فإذا خلت البطنة نشط الفكر، وإذا امتلأت اعتراه الخمول حتى قالوا قديما: (إذا امتلأت البطنة نامت الفطنة)

ويوم أن يصاب الفكر بالخمول يوم أن يحرم المسلم الفقه والحكمة وحينئذ يفقد أخص الخصائص التي تميزه عن بقية المخلوقات .

(4) تحريك دواعي الشر والإثم:

والأثر الرابع الذي يخلقه الإسراف إنما هو تحريك دواعي الشر والإثم ذلك أن الإسراف يولد في النفس طاقة ضخمة ووجود هذه الطاقة من شأنه أن يحرك الغرائز الساكنة أو الكامنة في هذه النفس وحينئذ لا يؤمن على المسلم العامل الوقوع في الإثم والمعصية إلا من رحم الله ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على الصوم لمن لم يكن قادرا على مؤن النكاح إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) .

(5) الانهيار في ساعات المحن والشدائد:

والأثر الخامس الذي يتركه الإسراف إنما هو الانهيار في ساعات المحن والشدائد ذلك أن المسرف قضى حياته في الاسترخاء والترف فلم يألف المحن والشدائد ومثل هذا إذا وقع في شدة أو محنة لا يلقى من الله أدنى عون أو تأييد فيضعف وينهار لأن الله عز وجل لا يعين ولا يؤيد إلا من جاهد نفسه وكان صادقا مخلصا في هذه المجاهدة { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم}.

(6) عدم الرعاية أو الاهتمام بالآخرين:

والأثر السادس الذي يتركه الإسراف إنما هو عدم الرعاية أو الاهتمام بالآخرين ذلك أن الإنسان لا يرعي الآخرين ولا يهتم غالبا إلا إذا أضناه التعب وعصبته الحاجة كما أثرعن يوسف عليه السلام: أنه لما صار على خزائن الأرض ما كان يشبع أبدا فلما سئل عن ذلك قال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع .

والمسرف مغمور بالنعمة من كل جانب فأنى له أن يفكر أو يهتم بالآخرين .

(7) المساءلة غدا بين يدي الله:

والأثر السابع المترتب على الإسراف إنما هي المساءلة غدا بين يدي الله كما قال سبحانه {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}.

ومجرد الوقوف بين يدي الله للمساءلة والمناقشة عذاب كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ... من نوقش الحساب يوم القيامة عذب).

(8) الوقوع تحت وطأة الكسب الحرام:

والأثر الثامن الذي يتركه الإسراف إنما هو الوقوف تحت وطأة الكسب الحرام ذلك أن المسرف قد تضيق به أو تنتهي موارده فيضطر تلبية وحفاظا على حياة الترف والنعيم التي ألفها إلى الوقوع والعياذ بالله في الكسب الحرام وقد جاء في الحديث: (كل جسد نبت من سحت أي من حرام فالنار أولى به).

(9) أخوة الشياطين:

والأثر التاسع الذي يتركه الإسراف هو أخوة الشياطين كما قال سبحانه وتعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا}.

وأخوة الشياطين تعني الصيرورة والانضمام إلى حزبهم وإن ذلك لهو الخسران المبين والضلال البعيد {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.