في تطور دراماتيكي تغيرت حالة العلاقة الهادئة بين «حزب العدالة التركي» الحاكم، والمؤسسة العسكرية إلى حالة صراع علني صاخب، ولكنه يمر عبر قدرة كل طرف على استخدام القانون لصالحه. ومن اللافت أن يكون سبب هذا الانقلاب العسكري القانوني في تركيا هو الحجاب، الذي أثار حفيظة عسكر العلمانية التركية، ودفعهم إلى الإسراع في حسم المعركة سريعاً عبر المحكمة الدستورية العليا التركية.
والحقيقة أن ما يحدث في تركيا الآن ليس صراعاً بين الإسلاميين والعلمانية، إنما هو صراع بين الديموقراطية في شكلها المثالي، والعلمانية في قربها من التطرف الإلحادي، فمن المعلوم أن «حزب العدالة» رغم خلفيات أصحابه الإسلامية إلا أنه فاجأ الجميع في العالم باعترافه بالعلمانية وتمسكه بها، وهو ما ضمن له صعوداً سريعاً إلى قمة السلطة في دولة تحكمها مؤسسة عسكرية لها توجه علماني أتاتوركي خاص، ودلالة خصوصية علمانية تركيا تنبع من فكر ومسيرة أتاتورك في قضائه على كل مظاهر الإسلام في تركيا في حرب شرسة قطعت صلة تركيا مع الإسلام فترة من الزمن.
وكانت عودة الإسلام للعمل السياسي في تركيا مرتبطة بحرب وضربات إجهاضية من المؤسسة العسكرية، كان أبرزها ما حدث من انقلاب على «حزب الرفاه» بقيادة السياسي التركي العظيم نجم الدين أربكان، الذي لم يُشفع تحالفه مع حزب علماني بقيادة امرأة تدعى تانسو تشلر أن ينقلب عليه العسكر ويحاربوه هو وحزبه حتى استطاعوا إقصاءه من الحياة السياسية تماماً رغم تاريخه المجيد في خدمة تركيا والإسلام.
ومن اللافت أن «حزب العدالة» قدم تجربة ديموقراطية شهد لها العالم، حتى إن وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول كان يتغنى بالتجربة التركية لـ «حزب العدالة» كنموذج يطالب الدول العربية والإسلامية بالاحتذاء به، وقد حاول «حزب العدالة» اللحاق بركب الاتحاد الأوروبي بكل ما تمليه مقتضيات التغريب، ولكن التاريخ والانتماء للإسلام كانا حاجزين أمام القبول الذي لم يخفه الأوروبيون، بل أعلنوه علانية جهاراً نهاراً.
وقد شهد الأسبوع الأخير من شهر يونيو الماضي صواريخ موجهة من العلمانية المتطرفة في تركيا إلى «حزب العدالة» عبر المحكمة الدستورة العليا، وذلك عندما وجهت المحكمة العليا التركية توبيخاً لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان زعيم «حزب العدالة والتنمية»، فقد رأت تلك المحكمة أن القانون الذي نجح أردوغان في تمريره في البرلمان التركي في فبراير الماضي، والذي يسمح للنساء بارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات الحكومية، هو قانون يخالف مبادئ العلمانية التي ينص عليها الدستور، ومع بداية شهر يوليو الجاري نظرت المحكمة العليا أيضاً في طلب من المدعي العام بحظر «حزب العدالة» ومنع سبعين من أعضائه من ممارسة نشاطهم السياسي لمدة خمسة أعوام، وقال الادعاء العام في أوراق الدعوى والتي تقع في 162 صفحة: «إن المخاطر على العلمانية في تركيا تزداد مع مرور كل يوم.»، مضيفاً: «إن هذه المخاطر واضحة وملموسة، وأنه لا مجال لحماية المجتمع من هذه المخاطر إلا بإغلاق «حزب العدالة والتنمية».
وما هو جدير بالذكر أن الدستور التركي يحظر محاكمة رئيس الجمهورية، والذي يطالب المدعي بمنعه من العمل السياسي، إلا بتهمة الخيانة العظمى.
وقد قوبلت هذه الدعوى برد فعل قوي على الصعيدين الداخلي والعالمي، إذ رد أردوغان على الدعوى بالقول إنها اعتداء على الديموقراطية. وكان لافتاً تدخل مسؤول الاتحاد الأوروبي أولي رين الذي حذر من مغبة السير في هذه الدعوى وإمكانية حظر «حزب العدالة والتنمية»، وعواقبها على فرض انضمام تركيا إلى الاتحاد، مطالباً بحل هذه الخلافات السياسية عبر صناديق الاقتراع وليس عن طريق المحاكم، والتدخل الغربي في الملف التركي لافت جداً، فقد راهن الغرب على نموذج ديموقراطية تركيا كنموذج للعالم الإسلامي للحيلولة دون وصول جماعات العنف للسلطة، لكن تدخله الآن محسوب ومهم لمشروع دمقرطة المنطقة، لذلك كتب روجرز كوهين في الـ «نيويورك تايمز» في 25 يونيو الماضي مقالاً مهماً جداً يعبر عن الرؤية الأميركية للديموقراطية الإسلامية كما يراها الأميركان. وقد جاء في مقاله: «ووجهة نظري في شأن هذه المسألة تنقسم إلى شقين: الأول: أن النساء في سن التعليم الجامعي يجب أن يتمتعن بالحرية في ارتداء ما يردن وفقاً لمعتقداتهن الشخصية. ومن هذه الزاوية، فإنني أرى أن حكم المحكمة العليا غير مقبول. الثاني، أن المؤسسة العلمانية لتركيا الحديثة، كان لها دور أساسي في خلق المجتمع التركي المتسامح. ويجب ألا تقبل بالتخلي عن دورها هذا، من دون قتال، خصوصاً في البيئة الشرق أوسطية الحالية التي تندر فيها الديموقراطية، وتشتد فيها شوكة الإسلام. من هذه الزاوية، أرى أن حكم المحكمة المشار إليها، يمثل تحدياً صعباً وإنْ كان لا يخلو في الوقت ذاته من بعض الفوائد لحزب (العدالة والتنمية) نفسه، لأنه سيدفعه حتماً إلى تحسين أوراق اعتماده الليبرالية».
وقد تلزم الإشارة هنا إلى أن أردوغان وحزبه يحظيان بشعبية ملحوظة في كل من واشنطن وأوروبا، وبلا شك فإن اهتمام الغرب وأميركا بمشروع «حزب العدالة» يلقى ارتياباً من كثيرين من الإسلاميين الذين ينظرون لكل ترحيب غربي بالشك والحذر، ومن ناحية أخرى، يراقب كثيرون من المعتدلين الإسلاميين الحرب على حزب «العدالة والتنمية» في تركيا بشعور بالمرارة والخيبة، بعد فرحة النصر بفوز الحزب وتجربته السياسية، ولا يخفى أن كثيراً من العلمانيين في الوطن العربي فرحوا بصواريخ المؤسسة العسكرية القانونية التي أصابت الحزب وتجربته في تركيا بالوهن، ولكن الحزب لم يقع ولم يُهزم بعد فهو مصمم على خوض المواجهة، وأعد أسلحته كلها للرد ومنها مشروع حزب جديد بديلاً عن حزب «العدالة والتنمية».
وأخيراً... ما لا شك فيه أن الواقع التركي له خصوصيته التي تختلف عن الواقع العربي تماماً، إلا أن تجربة حزب «العدالة والتنمية» التركي أسعدت الكثيرين من الإسلاميين العرب، وصواريخ المؤسسة العسكرية ضد حزب «العدالة والتنمية» أعادت الإسلاميين العرب للتفكير مرة ثانية في التجربة الحزبية.
ممدوح إسماعيل
محامٍ وكاتب مصري
[email protected]