حوار / باحث لساني لبناني حصل على جائزة «أهمّ كتاب عربي» للعام الماضي (1 من 2)

سراج لـ «الراي»: شعارات الثورة المصرية كانت «بيتية» وحرّكت حتى «حزب الكنبة»

1 يناير 1970 09:42 م
• أفتخر- وأنا لبناني- بإنتاج كتاب عن الثورة المصرية ... لم يكتبه المصريون حتى الآن

• المجتمع المصري يملك قدرات هائلة على رصد الواقع السياسي وملاحظة التبدلات الحاصلة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم
بين الطرافة والثقافة، صاغ المصريون شعارات ثورتهم غانمين من مخزونهم الشعبي الفكرة، ومن حسّ الطرافة الذي يميّزهم العبرة، ليوصلوا خطاب احتجاجهم الذي مكّنهم من خلع رئيس والإطاحة بآخر.

وعلى غرارهم تحرك شباب آخرون، لكن شبيبة ميدان التحرير وشيبه دمغوا حراكهم ببصمتهم الشعبية، مستخدمين المأكل، ومستندين إلى الإرث الفني والتراث الشعبي.. ليقولوا للمستبد بمفرداتهم الخاصة: «ارحل».

الباحث اللبناني الدكتور نادر سراج، الحاصل على جائزة «أهمّ كتاب عربي للعام 2013» عن كتابه «الشباب ولغة العصر ـ دراسة لسانية اجتماعية»، وضع كتاباً جديداً تحت عنوان «مصر الثورة وشعارات شبابها.. دراسة لسانية في عفوية التعبير»، ضمّنه دراسة لسانية موسعة ومعمقة لشعارات ثورة 25 يناير تلك التي أُطلقت في الميدان، وارتفعت على اللافتات، وكُتبت ورُسمت على الجدران وانتشرت على المواقع الإلكترونية.

والكتاب، الذي جاء في 408 صفحات، وصدر بالتعاون مع «المعهد الألماني للأبحاث الشرقية» في العاصمة اللبنانية، توجّ جهدا نادرا وفريق عمله الذين انكبوا على درس 1700 شعار لتحليلها من كل الزوايا ويقدمون عملاً متكاملاً يحمي تلك المرحلة من السقوط في غياهب ذاكرة العرب القصيرة.

«الراي» التقت سراج في مكتبه في بيروت، واستحضرت معه مصر عبر شعارات ثورتها، فكان حواراً عن «أرض الكنانة» في «بلاد الأرز» هنا نصه:

• السؤال البدهي الذي يُطرح لماذا اخترتَ الثورة المصرية دون سواها لدراسة شعاراتها؟

ـ أهمية دراسة الشعار السياسي، الذي يشكل في المحصلة بنية بلاغية، ليست فقط في ترجمته لنبض الشارع الذي أنتجه من مرسل ومتلقي ومروج ومعدل، ولا كيفيات استقبال هذا الشعار لدى الجمهور المعني به، ولكن في قدرة هذا الشعار على الترجمة الحقيقية لنبض البيئة المحتضنة له، والتي أنتجته. بمعنى أن هناك بيئات عربية عديدة، من لبنان الذي عرف أيضاً حراكاً سياسياً شعبياً منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 واستمر بأشكال أخرى، ومن تونس إلى مصر إلى سورية، ليبيا، اليمن.. هناك أشكال ونماذج عديدة لهذا الحراك، ولكن الخصوصية المصرية هي التي استوقفتني بالذات. وأعتقد أنها تستوقف أي باحث لساني مهتمّ بدرس هذا الشعار من وجهة نظر العلوم العصرية.

المجتمع المصري يملك قدرات هائلة على رصد الواقع السياسي، وملاحظة التبدلات الحاصلة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، على الانتقاد المُر، على السخرية من الأوضاع المتأزمة، على الثورة في مجالات مطلبية شعبية استهلاكية، على توجيه الحراك المطلبي، وعلى ملاحظة الواقع بعين الناقد الساخر. فالمصري يستطيع أن يعيش مأساته اليومية والاستهلاكية، غلاء الأسعار، تدني الأجور، اختفاء مواد وسلع أساسية من السوق المحلية، ساعات العمل، مشكلة المرور ووسائل النقل... المصري يستطيع أن يعبّر بكل تلقائية وسخرية مُرّة عن واقعه بالكلام العفوي.

فاللهجة المصرية غنية بتعابير الاستياء والمعاناة والازدراء والسخرية من النفس ومن الآخر ومن الزعيم ومن الوضع العام، وتشكيل النكتة التي تعْبُر كل الطبقات الشعبية.

لذا فإن الشعب المصري يملك مخزوناً هائلاً من المعاناة والروح المرحة في الوقت نفسه، وحين اندمجت المعاناة التاريخية مع الروح المرحة والقدرة على انتقاد الذات والآخر، اندمجت بخلفية الثورة المصرية.

الأخوة التونسيون أعطونا جملة اسمية متكاملة ومتداخلة هي: «الشعب يريد إسقاط النظام»، ولكن هذا الشعار لا يحتوي على إيحاء بحراك شعبي ومعاناة ودينامية لفئات اجتماعية، بعكس المصريين الذين ضموا كل نتاجهم وثقافتهم ومنظوماتهم العقلية والفكرية والثقافية والتراثية بالثورة المصرية.

لذلك على باحث مثلي، وأنا لبناني، إنتاج كتاب أفتخر به عن الثورة المصرية، لم يكتبه حتى الآن مصريون.

• قبل الغوص في معاني الشعارات، لا بد من التوقف عند غزارتها ففي كل تظاهرة واعتصام وعلى «فايسبوك» والجدران كانت المخيلات واسعة والشعارات غزيرة. إلى ماذا ترجعون هذا الأمر؟

ـ مَن قاد هذه الثورات في العالم العربي وخصوصاً في مصر هو الجيل الشاب، الذي يملك قدرات لا متناهية في توظيف وسائل التواصل الحديثة وكل ما يتصل بها وفنون بصرية جديدة كالغرافيتي. هذا الجيل يملك هذه الملَكة الجديدة، التي لم نكن نملكها نحن جيل الستينات والسبعينات من القرن الماضي.

بداية الثورة كانت عبر «الأثير العنكبوتي»، الذي استفاد منه الشباب لتناقل الأخبار وعرض الشعار الذي تمت صناعته بيتياً على مواقع التواصل الإجتماعي لإبداء الرأي به، حتى يكون ذات وقع ومضمون وموجزاً.

أما عن سبب هذا الكمّ الهائل من الشعارات، فلأن هناك معاناة تاريخية وقضية وتغيير، وقد أدخلوا ووظفوا كل قدراتهم اللغوية ومعرفتهم بوسائل التواصل الحديثة. وشاركهم فنانون شباب في الرسم والإبداع. وهم توجهوا إلى السينما المصرية كمعين نهلوا من أفلامها، كما توجّهوا إلى أغنيات الفنان عبد الحليم حافظ وأم كلثوم.

وأثناء مروري بشوارع القاهرة استوقفتني رسمة حائط لماري منيب وفيها تخاطب الطنطاوي قائلة عبارتها الشهيرة: «إطّمن يا روح أمك». وهم استعانوا أيضاً بعبارة لـ شكوكو وأخرى لاسماعيل ياسين وجملة لتوفيق الذقن. لم يوفروا أي أيقونة من أيقونات السينما المصرية ومحطاتها الكلامية، بل استخدموها ووظفوها في الثورة المصرية.

والمصريون إلى ذلك، يملكون قدرة على تطويع اللغة. فأنا قلت ان العلاقة بين اللغة والمجتمع المصري تحديداً في لحظات الأزمات، تبيّن مدى توظيف المواطن المصري، سواء أكان المنتج للشعار أو المتقبل له أو المروج له، لكل مكونات هذه العملية السياسية والاجتماعية والمطلبية في صوغ هذا الشعار وحمله.

• لطالما عُرف العرب على أنهم ظاهرة صوتية، يكتبون الشعر ويلقونه في المديح والفخر والغزل.. هل تندرج هكذا شعارات ضمن هذه الظاهرة العربية؟

ـ هذه المقولة هي أحياناً كلام حق يُراد به باطل. فظاهرة صوتية تعني أنها ليست ظاهرة حقيقية وفعلية. أنا قلت في الكتاب، وهذا رأيي، ان الشعار السياسي تحوّل مع هؤلاء الشباب فعلاً سياسياً. وكما قال الكثير من النقاد، هذا الكتاب يتكلم على مرحلة زاهية في تاريخ الثورات العربية ومنها الثورة المصرية ـ الثورة الأولى ـ فربما نحن اليوم في الثورة الثانية أو الثالثة.

إذاً، نحن نوثّق هنا ما حدث. والشعارات ليست ظاهرة كلامية فقط، بل ظاهرة فعلية. فهذه الشعارات حرّكت الناس في بيوتهم. وقد أنشأوا في مصر شيئاً جميلاً، وهو ما أسموه بحزب «الكنبة» أي الناس الذين لا يغادرون الكنبة ويمضون وقتهم أمام شاشات التلفزيون، وهؤلاء خرجوا في البداية إلى الشرفات وصفّقوا. أما في المرحلة الثانية فنزلوا إلى الشارع وشاركوا في التظاهرات.

من هنا فالشعار لم يعد ظاهرة صوتية. وللأسف، قال الناشطون السياسيون في مصر انه «لم يبقَ من الثورة سوى الهتاف».. وحينها نقول نحن كمراقبين ان هذا الهتاف هو «دينامو»، محرك، وقاطرة، بغض النظر إلى أين آلت الثورة. فهذا لا يدخل في مجال عملي كباحث لساني. أنا أرصد وأسلط الأضواء وأوضح وأحلل وأفكر، ولا سيما في مجال الشعار والتعاطي الإعلامي. ولكن أثبت الشباب أنهم يملكون أكثر من أصواتهم، أو وظفوا هذا الصوت للتغيير. هم لم يوظفوه فقط من أجل «عاش فلان وسقط فلان» كما تعوّدنا في بلادنا العربية، أو لدغدغة مشاعر الحاكم أو للتملق والتزلف. هم لم يخرجوا كما الشعار اللبناني الشهير «بالروح بالدم نفديك يا..»، أو «الله، وفلان وكذا وبس». الشعب المصري خرج لهدف معين هو التغيير والمطالبة بحقوق إنسانية بسيطة وإزالة الحاكم الظالم وأعوانه.

في مصر استخدم المتظاهرون اللغة العربية الفصحى والعامية المصرية الحقيقية التي توصل الرسالة. إذ لاحظنا أن اللغة الفصحى كانت في الرسائل المقتضبة وفيها كلام عن الاستعمار والامبريالية والصهيونية.. ولكن في الرسائل التي خاطبت الحاكم وهدفت لإزاحته كانت اللغة الشعبية.