إضاءات / جدلية الذات والموضوع في شعر سعاد الصباح (4)

1 يناير 1970 09:50 م
تعالج الشاعرة سعاد الصباح هذين المحورين منطلقة من «ذاتها» امرأة، ومن هويتها كويتية ورثت عن الأهل والبحر ما ورثت، إلى تحديد هويتها الثقافية والإنسانية، في سعيها إلى الحرية والانعتاق، بحثاً عن الموضوع الذي يشغلها، والذي يتمثل في رفض تلك النظرة القاصرة للمرأة بعد ظهور النفط، عند بعض الأثرياء الجدد، الذين استبدت بهم نشوة الثروة الجديدة، فنسوا القيم الأصيلة من جهة، وأرادوا أن يجعلوا من العلاقات الإنسانية أشياء تُشترى وتُباع.

إنني بنت الكويت

ومع اللؤلؤ في البحر ترعرعت.

ولملمت محاراً ونجوما

آه... كم كان معي البحر حنوناً وكريما

ثم جاء النفط شيطاناً رجيما.

فانبطحنا عند رجليه – رجالا ونساء.

وعبدناه صباحاً ومساء.

ونسينا خلق الصحراء، والنخوة ، والقهوة ، والمهباج ، والشعر القديما.

وغرقنا في التفاهات،

هدمنا كل ما كان مضيئا.

وأصيلاً وعظيما.

تعتمد الشاعرة الجملة الاسمية منهجاً لإثبات صفاتها الأساسية: الثورة، الغضب، الأنوثة والنعومة، كما مرّ معنا في المقطع الشعري السابق. وفي المقطع الذي بين أيدينا تنتهج النهج ذاته في إثبات انتمائها للوطن «إنني بنت الكويت»، إلا أن تغيراً يطرأ على المستوى الأسلوبي للجملة في ما يتبع ذلك إذ نجدها تنتقل إلى صيغة الفعل، أو الجملة الفعلية «ثم جاء النفط شيطاناً رجيماً». هذا التغير في المستوى الأسلوبي النحوي يتوافق تماماً مع ما حدث على أرض الواقع من تغيرات بعد ظهور النفط: «انبطحنا عند رجليه»، «عبدناه»، «نسينا خلق الصحراء»، «غرقنا في التفاهات»، و»هدمنا ما كان مضيئاً». إن الشاعرة في انتقالها من الجملة الاسمية الجامدة، والقائمة على الوصفية إلى ديناميكية الجملة الفعلية المتحركة، تمنح نصها الشعري مزيداً من المصداقية والجمالية.

من حيث المضمون هي تلقي كثيراً من اللوم والعتب على النفط وعصره، هذا المكون الذي تسبب في تلويث نفوسنا، وتخريب ضمائرنا والشاعرة واعية، في ربطها العميق بين ذاتها كويتية عاشت مع اللؤلؤ، وأعطاها البحر الحنان والدفء، وبين هويتها العربية الأصيلة كابنة للصحراء ووارثة لتقاليدها في القيم، وما تعلمته من نخوة وكرم وسيماؤها فنجان القهوة والمهباج والشعر العربي القديم.

إن الشاعرة بأبياتها السابقة، تجسد تلك المفارقة العجيبة بين ما كان من جمال البحر وعطائه، وبين ما هو حادث من غرق الناس في التفاهات ونسيان الأصالة. وهذا يُبرز البحر وكويت الغوص «معادلاً موضوعياً» تستخدمه الشاعرة للإشارة إلى الفاعلية والإيجابية من جانب، ورمزاً شعرياً للأصالة والعراقة من جانب آخر، ومع مافي هذه النظرة من حنين رومانسي إلى القديم، فإنها تنفتح على الإيجابية في الزمن الراهن من خلال قصيدة الشاعرة، ومن خلال من تتوجه إليه الشاعرة بهذه القصيدة من القراء في زمن النفط.

غزو الكويت وجدلية الذات

لعل تجربة سعاد الصباح الشعرية في غزو الكويت واحتلالها من قبل النظام العراقي أوضح دليل على مقولة البحث في جدلية الذات والموضوع; تلك التجربة التي أشرنا إليها آنفاً في سياق الحديث عن الثنائيات المتضادة (حمامة السلام في مقابل طغيان النظام ووحشيته). وهي ثنائية ولّدت لنا أسئلة عديدة في مفهومنا للعروبة ومساهمتنا في صنع الطغاة.

تستمر الشاعرة في تجسيد تلك العلاقة الجدلية بين ذاتها وموضوعها، فقد أصبحت الكويت في شعرها ذاتاً أوغدت ذاتها الرافضة للاحتلال موضوعاً... هنا تخلت الشاعرة، وإن موقتاً، عن كذب بعض الأحلام التي أشاعتها بعض الأنظمة العربية عن الوحدة والدعوة إلى القومية والمصير الواحد. لقد ثبت للشاعرة بما لا يدع مجالا للشك كذب تلك الادعاءات وزورها، فالكويت التي قدمت المال والدعم لجارتها العراق للدفاع عن (البوابة الشرقية المزعومة) أصبحت ضحية للجلاد، وباتت لقمة سائغة لمدعي الوحدة والقومية في لغة واضحة لا لبس فيها، تتحاشى الكمون وراء البلاغة الفارغة، والخطب الرنانة، فقد انكشف كل شيء، وقصرت المسافة بين الذات والموضوع، في لحظة مصالحة نادرة مع الذات حتى وإن افتقرت لغتها إلى المباغتة الفنية، فإنها امتلكت تمنعاً أو مباغتة من نوع آخر، إنها مباغتة الانكشاف والتخلي عن الأقنعة الشكلية، لتؤدي رسالتها المقصودة بأقصى سرعة، وأقصر عبارة ودونما تزويق فني أو تجميل بلاغي، كما في قولها من قصيدة (بطاقة من حبيبتي الكويت):

نحن باقون هنا...

نحن باقون هنا

هذه الأرض من الماء إلى الماء ... لنا

ومن القلب إلى القلب... لنا.

ومن الآه إلى الآه ... لنا.

كل دبوس إذا أدمى بلادي.

هو في القلب أنا

نحن في القلب أنا

نحن باقون هنا

هذه الأرض هي الأم التي ترضعنا.

وهي الخيمة، والمعطف، والملجأ.

والثوب الذي يسترنا.

وهي السقف الذي نأوى إليه.

* رئيس تحرير مجلة «البيان» وأكاديمي في جامعة الكويت