قوس قزح / سقوط شجر الليمون
|أيمن بكر|
1 يناير 1970
05:26 م
كام عام ومواسم عدوا
وشجر الليمون دبلان على أرضه
كلمات وقفت إلى صف الإنسان وعرفت مأساته على ضفاف وادي النيل طوال عقود كئيبة منذ السبعينات. المأساة التي أذبلت الإنسان حين سحقت كرامته سلطة غاشمة وأغلقت في وجهه أفق الأمل. تمايلنا وأحببنا كاتب الأغنية وملحنها ومغنيها الذي يتصدر المشهد بحكم معادلات الإعلام.
محمد منير من مطربي جيل الثمانينات الذي شهد صعود دولة الفساد والقهر وارتفاع قيم النفاق والزيف والتكرار والسطحية والاستسهال ومعاداة الإبداع. كان منير لصيق فنانين كبار مثل عبد الرحيم منصور وأحمد منيب، وهما الثنائي الذي ألف ولحن أهم أغاني منير ومنها أغنية شجر الليمون، ويحيى خليل وفؤاد حداد وغيرهم ممن صنعوا مغايرته ووجهوه نحو الانحياز للأضعف، واستخدام التراث النوبي الذي كان أهم أسباب تميزه. فظل معبرا عن اتجاه مختلف في تعامله مع معادلة السلطة التي طرفاها نظام الحكم والإنسان العادي، بحيث أصبحت أغنياته أكثر انحيازا لهموم البسطاء وآلامهم وأحلامهم، وأكثر إدانة ـ بحق ـ للسلطة التي بيدها القانون وإمكانات الدولة.
اليوم يخرج علينا منير بأغنية صادمة تناقض معادلته الفنية التي ميزته. ولنتأمل قليلا مكونات الأغنية من كلمات ولحن وأداء. كاتب الأغنية هو أيمن بهجت قمر الذي عرف بقدرته على صناعة «الإفيه» الغنائي المميز، ما ساعده في السنوات القليلة الأخيرة على كتابة الأغنيات للمسلسلات ومطربي الموجة الجديدة. لم يظهر في كتابات قمر عمق شعري أو وعي لافت بقدر ما ظهر فيها قدرة واضحة على معرفة احتياج «الزبون». والزبون هذه المرة صيد ثمين جاء في لحظة تاريخية خاصة. الزبون هو محمد منير الذي يتخبط في السنوات الأخيرة ويكاد يتوقف ويختفي عن الأعين.
الخطير في الأمر أن اللحظة التاريخية التي تمر بها مصر تعلو فيها خطابات إعلامية سطحية تنادي المصريين بالعمل والتعب والعرق من أجل مصر. نداءات لا علاقة لها بأي وعي حقيقي بطبيعة الشعب المصري ولا بشروط لحظته التاريخية. هي مجرد مزايدات تحاول استباق أحلام السلطة وتبريراتها المتوقعة. إن مطالبة الشعب المصري بالعمل فيها اتهام ضمني خرافي بأنه شعب كسول، أي ان العمل موجود ولكن المصريين يرفضونه كسلا وتمنعا. ولنا أن نتساءل: أليس هذا الشعب هو نفسه باني السد العالي وصاحب معجزة العبور؟ ألم ينتفض هذا الشعب مرتين خلال ثلاث سنوات ضد الفساد والتسلط. وإذا كان المصريون بهذا الكسل والترفع على العمل فما الذي دفعهم دفعا للهجرة والسفر للخارج؟ هل كان سفر المصريين بسبب البطالة والفساد والمحسوبية وانعدام آفاق المستقبل، أم أن ملايين المصريين المغتربين في كل دول العالم قد سافروا بإرادتهم للسياحة والاستجمام؟
الخطاب المضحك الذي يطن به الإعلام المصري يفتقر لأبسط قواعد المنطق: إذا أردتني أن أعمل، فعليك يامن من تتصدى لإدارة الوطن توفير المشاريع وفرص العمل، بهذه البساطة. الإدارة الحالية لمصر تبدو ساعية بصدق لذلك، لكن إعلام السلطان دائم المزايدة والسعي للمبالغة المقززة التي تبرر للسلطة ما لم تطلب السلطة تبريره. يتم تصوير المصريين في الإعلام المصري بوصفهم كسالى نائمين لا يفعلون سوى شرب المخدرات والتحرش بالنساء والبلطجة وهي الصورة التي تخصصت في تقديمها أفلام السبكي الهابطة.
قفز أيمن بهجت قمر على الموجة الرائجة التافهة وكتب كلمات ملؤها التعالي والاتهام الباطل للمصريين بالكسل، والمدهش أن من تلقف منه الكلمات الساذجة التي تبحث لصاحبها عن موقع ضمن النظام الجديد هو محمد منير صاحب شجر الليمون واتكلمي وشبابيك وإيه يابلاد ياغريبة. تنادي الأغنية المصريين من كوكب آخر بأن يستيقظوا ويكفوا عن النوم، وأن يعيدوا حساباتهم. ولا أبالغ حين أقول إن من يجب عليه إعادة حساباته، ومن كان نائما خلال السنوات الماضية ويحتاج للاستيقاظ هو محمد منير نفسه، الذي يحتجب بكبر حكاه عنه معظم الذين احتكوا به شخصيا، فلم يشترك في أي حراك شهدته مصر خلال السنوات الماضية، ولم نسمع له أغنية ناجحة من سنوات طويلة.
أما اللحن فلا يستحق الكلام، هو إيقاع صاخب لا ميزة فيه سوى أنه مناسب تماما لحفلات أعياد الميلاد والخطوبة التي يرقص فيها الناس دونما أي اهتمام بما يقال. الملحن شاب لا أتذكر اسمه ـ ولعلي لا أريد تذكره ـ من الواضح أنه ضعيف التعليم والثقافة والموهبة، لأن ألحانه متشابهة وكلها مما يصم الأذن بالإيقاع، كما أن آراءه وأفكاره طوال العامين الماضيين كانت نموذجا مستمرا للسخرية في برامج التوك شو، خصوصا برنامج باسم يوسف الذي تخصص في الاستشهاد بالكلام الغريب والسطحي لهذا الشاب بهدف إضحاك المشاهدين.
ما آلمني وآلم موسيقيين مصريين محترمين قبلي هو أن منير قد فقد نبرة صوته الجميلة، وبدا في الأغنية الأخيرة كمن استيقظ من النوم لتوه. أغنية فاشلة تمثل سقطة لصاحب شجر الليمون الذي عليه إعادة حساباته أو الاعتزال.