أماكن / الأماكن (1)

1 يناير 1970 07:31 ص
«عندما يحاصَر الإنسان بخطر قادم من داخله يتعلق

بالأماكن... تلك التي عرفها أو تمناها، لعل وعسى?...»?

«مهندسين»

عبر النافذة تقوم البنايات، وفي الشوارع تحت المستشفى يلعلع الآلي، ممددا، تمتد الأسلاك، كيس الدم معلق، لا أعرف من يطلق النار؟، سمعت الانفجارات من شتى العيارات، لكن الآلي في المهندسين، الحي الأنيق، المبنى شاهق، كله عيادات الأطباء، مستشفى البرج الذي ألوذ به عند الأزمات يقع في الثاني والثالث، ما بيني وبين الدكتور جلال السعيد يُستعصى على التفسير، أخجل من الحديث عن عطبي إلى حين حتى وإن دوهمت بما لم أتوقعه، ماذا يعني مصيري والوطن يدمي?.? النافذة تطل على عدة مبانٍ متجاورة، أحدها يبدو مغايرا، سفارة ما، ربما، للمباني هنا سمة للستينات، خطوط مستقيمة، متقاطعة، نوافذ أو شرخات متساوية، شوارع متوازية، جامعة الدول، أحمد عبدالعزيز، مسجد مصطفى محمود قريبا، مجند يحاول الثبات، لكن صوت الآلي يعني وجود مسلحين، هذا غير مسبوق?.?

المهندسين، المهندسين، لم يكن للمنطقة وجود، منطقة خضراء، المزروعات خضار وفاكهة، من صفط اللبن ينتقل الحليب والخضار الطازج إلى أسواق القاهرة?.?

المهندسين، لم يكن لها وجود قبل الستينات، أعرف المنطقة، الاسم الغالب زمن طفولتي الدقي.

كان أبي يعمل في وزارة الزراعة، على الأقل مرة في الشهر يصحبنا، مقر انتظارنا وفسحتنا وفرجتنا المتحف الزراعي.

الأميرة فاطمة التي باعت مجوهراتها لتبني كلية الآداب عاشت هنا، هذا قصرها، ثمة شبه بين مبنى الوزارة والكلية، لم أعرف اسم المهندس، طفلا خطوت في المنطقة، الوزارة والمتحف النادر كانا آخر البنايات، بعدهما حقول ممتدة، غير أن المباني كانت موجودة في المواجهة.

ما بين شارع النيل والمتحف وقصر الأميرة شوارع أنيقة محفوفة بالأشجار العتيقة، ميدان ?يني، العجوزة.

من الواجهات التي أراها حتى الآن مستشفى الكاتب، مبنى ثلاثيني، له عندي الأبيض والأخضر، دخلته مع والدي صبيّا لزيارة أحد الأقارب، ثري، عنده فدادين وتجارة، أراه على البعد راقدا فوق السرير، إلى جواره منضدة فوقها نصف بطيخة مغطاة بشال أبيض. لا يقدر على المستشفى إلا لمن لديه مال وفير، أحيانا أمر به صدفة، أستعيد عندئذ وجه الرجل مستسلما، غائر العينين، متطلعا إليّ، في ما بعد.

في ما بعد زرت الشاعر الكبير كامل الشناوي، صوته العميق يعاودني، يأتيني أحيانا، كنت أصغي إليه يحدث صاحبه عبدالرحمن الخميسي الذي صحبني، كانت صلتي به وثيقة، لماذا جئت معه؟، لا أعرف، تحديقي إلى واجهة المستشفى لا يقدم لي عونا، فقط مجرد جلوسه على حافة السرير، صوته العميق، كان الحديث يجري حول شخص ملاحق من البوليس في الإسكندرية، يهيم في اللاموضوع كثيرون بلا حصر، أرقب ملامحهم، أو جزءًا من بعضها.

أما الذين ذكروا على مسمع مني فلا يمكن التعريف بهم أو استعادتهم، سأصحب ذكرى ما يخصهم معي ويسدل أستار اللا مرئي على كل شيء، فلأرجئ هذا، ما يعنيني المهندسين، عندما جئت إلى مؤسسة التعاون الإنتاجي القريبة من كوبري الجلاء، كنت أركب أوتوبيس رقم 66، اختفى الآن، من إحدى نوافذه رأيت نجيب محفوظ يمشي فوق كوبري قصر النيل، منه بدأ وثاق علاقتنا، كثيرا ما مال عليّ، يقول باسمًا?:?

«فاكر كوبري قصر النيلى... يقف حبيبي وأستاذي في تمثال قميء، اختصر قامته الفارهة حتى في شيخوخته التي نحل فيها، أطلق اسمه على أشهر ميدان في المهندسين لكن القوم يأبون تغيير الاسم.

الميدان لايزال عندهم سفنكس، تماما مثل شارع فؤاد، رفض الناس 26 ?يوليو ولايزالون، ظهرت المهندسين بالتدريج في البداية، قطعة أرض تخص النقابة، يبدو أن نفوذا قويّا أدى إلى التخطيط والبناء، ظهرت العمارات، مجموعة قليلة في البداية ثم انطلقت في كل اتجاه?.? العمارات التي أراها ستينية، اليوم جمعة، أحاول استيعاب الضوء الأغسطسي الناعم، أرقب كيس الدم المعلق، ترى، إلى من تمت هذه القطرات، من؟

بالأمس بدأ إطلاق الآلي مع بدء فض اعتصام رابعة، في السادسة صباحا اتصل بي يوسف، قلت له إنني مستيقظ منذ ساعة، أبلغني ببدء الفض، عدت إلى التطلع، هذا فراغ صيفي، الشارع المطل عليه المستشفى عريض نسبيا، في البداية كانت المهندسين أنيقة، مرتبة، زمن المهنيين الستيني.