مشاهد

ما تبقى من نجيب محفوظ

1 يناير 1970 05:52 م
ذكرى رحيل نجيب محفوظ حلت علينا يوم السبت 30 أغسطس الماضي. ورغم أنها مجرد مناسبة. فإنها فرصة لكي نتوقف ونتذكر ماذا بقي لنا من هذا الأديب العظيم. الذي أفنى حياته من أجل القراءة والكتب فقط. اعتمد على نفسه وموهبته باعتبار أن الاعتماد على النفس خير معلن عن معانيها. وعما يوجد فيها من معادن وقدرات.

المتحف الذي تقرر إقامته له لايزال فكرة وأوراقا ورؤى لم تخرج إلى الوجود. وأعماله المطبوعة تتراجع من المكتبات. وإن سألت صاحب مكتبة عن كتاب له، استغرب مجرد السؤال، ويبدأ في نفض التراب عن الكتب الموضوعة في آخر المكتبة من الداخل.. لعله يجد منها كتابا هنا أو كتابا هناك.

لكن يبقى الكلام عن أعماله التي لم يتم تحويلها لأشكال سينمائية أو تلفزيونية ولم تقدم على خشبة المسرح. ماذا جرى بشأنها؟ وماذا تم بخصوصها؟ من الأعمال غير المكتملة: ثلاثية «بين القصرين، قصر الشوق، السكرية»، التي جرى تحويلها لمسلسل تلفزيوني بعد حصوله على نوبل.

صحيح أن الثلاثية تم إخراجها على شكل ثلاثة أفلام بالأبيض والأسود، أخرجها حسن الإمام. ويومها هاجمناه واتهمناه بتشويه أدب نجيب محفوظ. وقبل إخراج الأفلام الثلاثة كان لدى مؤسسة السينما التابعة للدولة المصرية مشروعان لتحويل الثلاثية للسينما، الأول قدمه توفيق صالح، والثاني قدمه حسن الإمام. توفيق صالح اعتمد على البنيان الفكري للمرحلة التي تغطيها الثلاثية منذ منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، حتى منتصف العقد الرابع، لكن حسن الإمام اكتشف فكرة الغريزة الإنسانية التي يمكن أن تحرك حتى السلوك السياسي والفكري للبشر. يومها كان رئيس المؤسسة هو صلاح أبوسيف المخرج، وقد قبل مشروع حسن الإمام واعتذر عن مشروع توفيق صالح.

الأفلام الثلاثة القديمة يعرض منها الآن الجزآن الأول والثاني: «بين القصرين»، و«قصر الشوق». أما «السكرية» فقد منعت الرقابة عرضه منذ سنوات. ورغم تغير الأحوال وتبدل الظروف، فإن قرار منع العرض لايزال ساريا. قال لي نجيب محفوظ إن منع عرض العمل سببه مشهد النهاية. عندما يجلس الشيوعي أمام الإسلامي في بوكس البوليس مقبوضا عليهما في الطريق إلى السجن. ما يمكن أن يعطي الانطباع بأن مستقبل مصر والمنطقة بالتالي سيكون لأحد الشابين. المسلسل الذي تم إخراجه عن الثلاثية بعد نوبل، وكتب له السيناريو والحوار محسن زايد، تم تنفيذ الجزء الأول: «بين القصرين»، والجزء الثاني: «قصر الشوق». أما الجزء الثالث: «السكرية»، فقد اعترضت الرقابة على مجرد تنفيذه وليس على عرضه. ولأن معظم الأبطال قد توفوا، وحتى الشركة المنتجة لم يعد لها وجود. فلايزال الجزء الثالث من الثلاثية في مهب الريح. سينمائيا وتلفزيونيا.

روايته: «الحرافيش»، اشتراها منه يوسف شاهين عندما كانت تنشر مسلسلة في مجلة أكتوبر. لكي يحولها لفيلم سينمائي عالمي يقوم هو بإخراجه. لكن يوسف شاهين بدأ يبيع الحكايات حكاية حكاية. لمخرجين غيره. وهكذا شاهدنا نحو سبعة أفلام مأخوذة من ملحمة «الحرافيش». وحتى هذه الأفلام لم تقدم باعتبارها أجزاء من الحرافيش، لكن كل عمل قدم مستقلا تماما عن العمل الآخر. ورحل يوسف شاهين عن الدنيا دون أن ينفذ مشروعه. الذي أعتقد أنه لو نفذه كان سيختلف كثيرا عن الأفلام المأخوذة عن حكايات الحرافيش. صحيح أن ثمة فيلما عنوانه: «الحرافيش»، أخرجه: حسام الدين مصطفى. وكتب له السيناريو والحوار: أحمد صالح. وعرض سنة 1986. ولكنه يقدم حكاية واحدة من حكايات الحرافيش. وهناك أيضا: «التوت والنبوت»، الذي أخرجه نيازي مصطفى. و«سمارة الأمير» الذي أخرجه أشرف فهمي. ويوجد غيرهما وإن كانت لا ترقى لتقديم الرواية التي تعتبر ركيزة من ركائز الإنتاج الروائي لنجيب محفوظ. بل إنها، وكان، يعتبرها العمل الذي أنقذ السنوات الأخيرة من حياته روائيا. ودافع عن كثير من الهجوم عليه بسبب تباطؤه في الكتابة أو تراجع مستوى بعض الكتابات.

ومن المعروف أن ملحمة «الحرافيش» صدرت عندما كان نجيب محفوظ في السادسة والستين من عمره. لأنها صدرت سنة 1977. والعمل السابق عليها: «حضرة المحترم» سنة 1975، والعمل التالي لها: «الحب فوق هضبة الهرم» سنة 1979.

رواياته الفرعونية الأربعة: «عبث الأقدار» 1939، «رادوبيس» 1943، «كفاح طيبة» 1944، ثم «العائش في الحقيقة». وهي رواية عن إخناتون 1985، هذه الروايات لم تحول إلى أي شكل سينمائي. «عبث الأقدار» تم تحويلها لمسلسل تلفزيوني كان حظه سيئا. فرغم أن التحويل تم بعد حصول نجيب محفوظ على نوبل، وخلال حياته، فإن كثيرا من الدول العربية الشقيقة اعترضت على عرض المسلسل، باعتبار أن الأقدار لا تعبث. ولا يجب ذكر هذا. فعُرض العمل تحت مسمى: «عبث» فقط.

الأعمال التاريخية مكلفة جدا في الإنتاج. وعائدها أقل. ولاأزل أذكر أن الفنانة ليلى علوي اتصلت بي وجاءت لمقابلة نجيب محفوظ من أجل تحويل «رادوبيس» إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزوني. على أن تقوم هي ببطولته. وقد وافقها نجيب فورا ورحَّب بذلك. بل وشكرها على أنها فكرت في هذه الرواية. لكن المشروع لم يخرج إلى النور لا في حياة نجيب محفوظ أو بعد رحيله.

كاتب مثل نجيب محفوظ كنت أتوقع أن يتم إخراج الرواية الواحدة له أكثر من مرة. باعتبار أن رؤية المخرج يمكن أن تختلف من عمل لآخر. وتقدم رؤى مدهشة. وهذا حدث في العالم أجمع. فكم من مرة تم إخراج: «هاملت» لشكسبير. ليس داخل بريطانيا وحدها ولكن في كل مكان من العالم. وكم من مرة تم إخراج رائعة تولستوي: «أنا كارنينا» في بلدان كثيرة من الدنيا. بل لقد شاهدتها مؤخرا على شكل باليه، يقدم كفيلم سينمائي روائي. واستمتعت بها رغم استغرابي أن أجلس أربع ساعات لأشاهد باليه ليس على خشبة المسرح، ولكن في دار عرض سينمائية.

نجيب محفوظ جرت بعض المحاولات لإعادة إخراج أفلامه القديمة. فقد أخرج أشرف فهمي سنة 1990، رواية «اللص والكلاب» التي سبق أن حولت لفيلم سينمائي ناجح جدا في سبعينيات القرن الماضي. أعاد أشرف فهمي إخراجها تحت مسمى: «ليل وخونة».

تبقى رواية نجيب محفوظ التي تشكل مشكلة عمره الكبرى: «أولاد حارتنا». فبعد أن أصبح ممكنا نشرها ككتاب بعد أن كتب لها بعض رجال الدين مقدمة. فكَّر يوسف شاهين في تحويلها لفيلم سينمائي، لكن الموت لم يعطه الفرصة لكي يحقق هذا الحلم. تلميذه المخرج النجيب خالد يوسف فكَّر في شراء الرواية وتحويلها لفيلم سينمائي.

وفي الوقت نفسه، فكَّر السيناريست والمنتج وحيد حامد في شراء الرواية. وبدأ المفاوضات في الأيام الأخيرة لنجيب محفوظ، واستمرت المفاوضات بعد رحيله. وانقسمت العائلة تجاه الاستجابة لطلب وحيد حامد. ولاتزال المفاوضات مستمرة. لأن بعض الأصوات داخل العائلة تتصور أن نجيب محفوظ لو كان على قيد الحياة، ربما لا يوافق على تحويلها إلى فيلم سينمائي ولا إلى مسلسل تليفزيوني، بسبب الخلاف والاختلاف حول مضمونها الناتج عن القراءة التي تنطلق من مواقف مسبقة من النص.

بقي أن تعرف أن «أولاد حارتنا» حولت إلى مسلسل إذاعي في إذاعة صوت العرب في ستينيات القرن الماضي. لم تتم إعادته. والإذاعة الوحيدة التي اشترته وأذاعته بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، كانت هيئة الإذاعة البريطانية.