نادين البدير / في باليرمو اجتمعت ومحاربي المافيا (2)

1 يناير 1970 11:17 ص

|   نادين البدير*   |


صاحبة كروم العنب قررت ان تروي قصتها بنفسها، وتحيك حياتها بيديها فلم تهد خيوطها لأحد... صنعت روزماري مجدا وطنيا منذ حققت الحرية والاستقلال.

أجبرها والدها على الزواج في السابعة عشرة من عمرها. فتم طلاقها بسن مبكرة لتحولها المعاناة إلى ناشطة في حقوق الإنسان... جمعت حولها النساء. كرست نفسها لتحسين أوضاع المرأة الصقلية، دون أن تخشى الانتقادات اللاذعة أو تهاب التهديدات أو سخط  الأهل. كان اضطهاد المرأة لا يوصف في جنوب إيطاليا. أقله إجبار الأرامل على الحداد الأبدي، وارتداء السواد مدى الحياة. ولا يزال ذلك التقليد متبعا عند بعض العائلات في صقلية. ظلم أن يحدد لنا لون الحداد وعدد أيامه وشكل موحد للحزن. لم تصمت روز إزاء التمييز، ولا تزال مستمرة بجهودها لمحو الظلم بتوعية نساء صقلية بحقوقهن القانونية... هي تملك فندقا وأعناباً تقطفها لتروي ظمأ الباحثين والباحثات عن الحرية.

وفيما روزماري تكافح ضد عنف التقاليد . فإن رواداً آخرين كانوا يخوضون حربا لإيقاف سيول الدماء بصقلية.

تجارب معارك ناجحة ضد المافيا لخصها السياسي ليولوكا أورلاندو بعبارة واحدة: «لا تنتظروا مساعدة أحد».

- كيف ذلك؟ لا يمكن تحقيق الضغط على مسؤولي الداخل العربي دون معونة خارجية.

- نحن في باليرمو لم يساعدنا أحد، شمرنا عن سواعدنا... صنعنا أفلاما سينمائية، جندنا الإعلام لمحاربة الشر وتثبيت الوعي القانوني، قامت الكنائس بدورها الديني التوعوي الداعي للخير، امتلأت الصحف بمقالات وصور توضح همجية المجرمين. حتى النساء نشرت الملاءات السوداء على حبال الغسيل في شرفات المنازل لإعلان إنهاء سفك الدماء. قتل منا من قتل. وكثير منا مستهدف اليوم، لكننا سعداء لإنهاء عهد الإجرام وإن استمرت عمليات غسيل الأموال والأسلحة المهربة.

- في بلادي هناك حركة إرهابية حصدت الأرواح، هناك جماعات غيرت الكثير من القيم الإنسانية، ولا تزال تعمل على تدمير الحضارة. الفارق أن شعبك وقف وقفة واحدة أمام العصابات، أما نحن فأعداد ليست قليلة تؤيد الدمار، أعداد أخرى تؤمن بفكر بن لادن كمنقذ وكحل... في إيطاليا صارعت الإنسانية المخدرات والقتل. لكن من يصارع فكراً يقسم أنه من عند الله ومعه عقود تأجير مساحات في الجنة؟ كل شعوب العالم تنادي بالحرية . كل عبيد التاريخ حلموا بها. أما نحن فغرست لدينا ثقافة تربط الحرية بالكفر والسقوط.

- المسألة تصبح أكثر تعقيداً حين تستخدم الروحانيات كسلاح، لكن هناك حل بأيديكم ولا بد أن ترونه، لم يصل عدد القتلى في حي عربي أكثر من 300 قتيل سنويا، كنا نتعامل مع الدماء يوميا، الدماء شيء أغلى من كل شيء، انتشرت الأرامل بملابسهن السوداء بشكل مفجع. ولم تأتنا النجدة من الخارج مطلقا. نحن كأفراد قررنا أن ننهي حالة العنف. وهكذا كان.

نظرت إلى رجل الدين الوحيد بيننا. إذا كانت الكنائس الإيطالية قد حاربت المافيا، فإن كثيراً من مساجدنا قد صدح أئمتها بأعلى صوتهم وهم ينادون بسفك الدماء، وأحدهم موجود هنا. وضعنا بالفعل أكثر تعقيداً.

عندما رآني مصطفى أبو رمان (وهذا هو اسمه) صافحني بيديه مبتسماً.

في البداية كرهت وجوده ، وخلال عشرة أيام من اللقاء. أعادني وجوده إلى دين انتهى من الوجود، سمعت عنه في مراحل الطفولة المبكرة ثم اختفى وسط خطابات التكفير والوعيد. الدين الذي يقول ان الله هو السلام، الله ليس سلاحاً.

لم يعد رجال الدين يبتسمون للنساء، لا نرى منهم سوى حواجب مقتضبة، نسمع اللعنات، الدعوات بمصائر جحيمية. بعضهم يطلقها بعد الانتهاء من التمتع بأنساق الأجساد.

أما أبو رمان فإمام مسجد خمسيني بسيط وزاهد يصر على مبادئ أخالف بعضها، لكنه ملتح يؤمن بالتعددية وباحترام المرأة والأديان، وعدني بتعريفي على زوجته التي حدثني عنها كثيراً (الأمر الذي لا يفعله عدد من الليبراليين) أمضى معنا كل تفاصيل الرحلة، دخلنا معه بنقاشات، تناول معنا الطعام على ذات المائدة. وحين كانت الأبواب تقفل بوقت مبكر من الليل في فندق إيجة كمعظم فنادق صقلية لتذكرك أن الوضع ليس آمناً بالكامل، لم ننم، جلسنا وصديقنا الشيخ نستمع في الحديقة إلى الموسيقى، لم يجاملنا لإيمانه بالطبيعة.

شيء ما يميزه ليس سهلا وصفه، هناك إحساس روحاني لا يخلقه سوى حضور رجل أو امرأة وهبا نفسيهما للسماء، بعيداً عن السياسة والإنسان.

ذلك الإحساس أبدا لا يبعثه عائد من الجبهات وهو يجمع أطنان الأموال من وراء فتاوى وكتب و برامج فضائيات.

ضمن الندوات والمحاضرات كانت لنا نزهات...

صعدت على زوايا مختلفة من السلالم المؤدية إلى مدخل الأوبرا العظيمة لعلي أقف على أثر الوسيم آل باتشينو. هناك أطلق صرخته التاريخية على ابنته وهي تقتل أمامه في العراب. لم تكن صيحة أب عادية، في تلك اللحظة السينمائية سجل الخلود صرخة فنان.

أندريا سكروساتي (إعلامي ونائب الرئيس بشركة سكاي تي في )...

شعرت بالذنب وأحسست أنه يلومني لإعجابي ببطل العراب.

« للسينما دور كبير في صناعة أفكار الناس وثقافتهم القانونية، لذا فقد ارتكب المخرجون خطأ وهم يختارون مشاهير وسيمين للعب أدوار قيادات المافيا... تعاطفت الناس مع البطل الشرير وأحبته الفتيات. ذلك الاختيار السينمائي الخاطئ للأدوار سيوجه النفس الإنسانية فتتمنى أن ينتصر الشر بالنهاية متناسية أنه شر... لذلك قام مخرجون إيطاليون بصناعة أفلام يؤدي بها الممثل الجذاب دور المفتش أو القاضي، أما عضو المافيا فيؤديه ممثل له الشكل التقليدي القبيح للأشرار والمجرمين.

إن تلك الأعمال السينمائية بحسب دراسته قد ساعدت بالفعل على تصدي الناس نفسياً للمافيا...

روي جودسون.. بروفيسور ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لجامعة جورج تاون التي تقوم بنشر ثقافة احترام القانون من خلال لقاءات تبادل الخبرات والتجارب بين شعوب العالم. الأمر الذي لم تفكر فيه جامعة عربية واحدة.

توصل روي من خبراته في شرق الأرض وغربها،  أن معظم مشاكل وتعقيدات المجتمعات متشابهة وإن اختلفت الآلية. الإنسان الذي قضى على المافيا سيقضي على التأخر وعلى الإرهاب.

وتؤكد جميع الناشطات الغربيات اللواتي تعرفت عليهن أن ما تمر به العربيات طبيعي، صحيح أنه متأخر قرابة مئة عام على النهضة النسوية الغربية... لكن التحديات النسوية كلها أمور عاشتها وتعدتها النساء في بدايات القرن السابق دون استسلام.

لا تستحق أوطاننا الانتظار، التغيير ليس له أساس سوى قلوب الأفراد ونهوض شعبي كامل.


* كاتبة وإعلامية سعودية

[email protected]