أماكن / احذر... حقل ألغام (3)
| جمال الغيطاني |
1 يناير 1970
06:10 م
... مثلث أحمر صغير معلق إلى سلك شائك، القذائف الضوئية سواء عبر القناة أو العابرة إلى الطريق أو ما بعده نكشفها بوضوح، قال صلاح قبضايا?: «يظهر أننا انحرفنا إلى حقل ألغام?»?..
اختفى صوت مرافقنا تماما، مكرم صامت، مصطفى حسين قامته تتجاوز الساتر الترابي يحاول الانحناء حتى عند توقفه، يدركنا صوت ما منبعث من حفرة، من مزغل، من خندق، المهم أننا لم نكن بمفردنا، أحدهم كان يتابعنا، ربما من جنود تعلب، الغريب أنني لا أتوقف كثيرا عند الأرض غير المستوية والتي بث فيها الموت بثا، ألغام مضادة للأفراد بالتأكيد، من صاحب الصوت؟ هذا ما أتوقف عنده كلما استعدت أو اجتهدت في رؤية المكان ومررنا به، دائما نجد متعة في حكي لحظات الخطر التي مررنا بها، كثيرا ما تروى كطرفة، غير أنني لم أتطرق إلى هذه اللحظات بالذات.
كلما دنوت منها بروحي لم أر إلا هذا المثلث الأحمر «احذر?.. ألغام?»??، لماذا اللافتة؟ ألا يعد ذلك كشفا لمواقع القذائف المخفاة؟ لا أعرف، التقيت بكثيرين كان ممكنا أن أثير معهم ما حيرني، لكنني لم أقدم.
بل إننا اجتمعنا أكثر من مرة، الذين شاركوا في هذه الرحلة، تحدثنا عن الكيلو عشرة ومعركة رأس العش، وتعلب وملازمته الجبهة، لم ينزل إجازة واحدة منذ ستة شهور وخصص راتبه ليسدده مكافآت للجنود، تدمير الدبابة بعشرين جنيها، البلدوزر خمسة عشر، العربة الجيب عشرة جنيهات، لهجته جهينية تماما.
مرة قال لي شقيقي إسماعيل إنه التقى في صلاة الفجر بضابط من الصاعقة قابلني في الجبهة، يسكن في العمارة التالية، قال إن اسمه عبدالعزيز تعلب?..?.
تعلب...
يقف أمامي، يرتدي شدة القتال، الممرات تحت الأرض والملاجئ متقنة، لا أتذكر من حوارنا إلا قوله?:?
لما أكون هنا أهدأ أكثر?.. في الإجازات قلقي يشتد
من جرح من استشهد?.. لازم نصبر لغاية ما ننظف
الأرض دي من أولاد الكلب?..?.
العلامة الحمراء، «احذر?... حقل ألغام?»??
?«ما تخافوش، كل واحد يثبت مكانه، يرفع رجله ويحطها مطرح ما مشي?.. بلاش صوت خالص لأنهم بيسمعوا هناك، بيضرب على الصوت?»?.. مرور القذائف المضيئة ساعد على تبين مواطئ أقدامنا، الأرض طرية والتربة منداة، ما بين تقدم القدم وتأهب الجزع كله تكمن الإمكانية، انفجار اللغم يحول الكائن إلى شظايا، سنتداخل إذا لحقنا الحال، لو قلت إن مواضع الخطو بدت واضحة كأن ضوءا خفيا يكشفها لنا، قرأت في صباي أن رجلا ضل طريقه في الصحراء الموحشة بصحبة طفله الرضيع، صراخ الطفل أدمى قلب أبيه، بعد الخطو اليائس والتلفت الحائر وخفوت التوقع فوجئ الأب بألم خفيف في ثدييه، شيء لم يعرفه، لم يمر به من قبل، لكل حضور إنساني علاماته من أوجاع وأوضاع ولحظات حنين أو علامات كدر، تقع ألفة بين الكائن ومكانه، جسده.
الجسد الذي سيتفرق ويختفي، كل موضع مآله إلى تلاشي، أستعيد قولا قرأته للشيخ الأكبر في الفتوحات، لما كانت الحياة جمعا والموت تفرقة، درّ الأب حليبا ليرضع الابن ويأوي إلى نوم عميق، الحاجة تخضع قوانين الطبيعة لها، هل أوتينا وقتئذ درجة من الإبصار مكنتنا من رؤية مواطن أقدامنا في العتمة؟
*العلم?.. العلم
الطريق إلى شدوان، سأذكر مشهدا فقط، لن أطيل ثم أدخل مباشرة إلى ليلة عم حسن السوداني، أنا شخصيا أخشى الملل وأن يدخل من يقرأ في متاهة، إذا كان قريبا أو بعيدا، ربما أتمركز حول الحقبة لما أقرأه في الصحف والمواقع من أمور غريبة في بلادي البعيدة عني، لو قيل لي إنني سأشهدها لاتهمت محدثا بالجنون، عبر الهاتف سألت الخال?..?
?«هل يسبون الجيش ويحرقون العلم؟?»??
لم يجبني، إنما قرأ بعد لحظة صمت مربعا لم أطالعه بين ما نشره، كنت وقتئذ في مصر، أقضي الوقت ما بين مستشفى البرج والبيت، مرة عند ذهابنا في الصباح الباكر ومرورنا أمام حديقة الحيوان وحديقة الأورمان لمحت ثلاثة منهم على الضفة الأخرى من الشارع، أقوياء البنية، لحاهم كثة، جلابيب بيضاء وطواقي مهندمة، يبدو أنهم ناضورجية.
تبادلت النظرات من خلال وضعي المرهق والذي استلزم إرجاع المسند إلى الوراء، بدا محمد ابني متأهبا، أدرك الخطر المحدق، لكن لم يتعرف أحدهم على ملامحي، وربما أدى التغير إلى الجهل بي، ذلك إنني في مرحلة انسداد الشهية فقدت أكثر من عشرة كيلو غرامات خلال شهر واحد، أحد الثلاثة كان جالسا على مسند محطة الأوتوبيس الذي تنبثق منه اللافتة المعدنية عيونه أمامي.
?«المرور من هنا خطر يا حاج?..»??
?«خليها على الله?..»??.
?«كله على الله?.. لكن الحرص واجب?..»??.
قلت عصرا
?«يعني عشنا اليوم اللي يتسب فيه الرجالة من دول?...»??
?«يا شيخ?.. فيه حاجة غلط في الوضع كله?..»??
صوت يحضني على التوقف، أقرب إلى نبر الشيخ عبدالوارث، لم أحاوره قط إنما كنت أطيعه، عند إبدائي الخلاف أتطلع إليه مبتسما، صامتا، لعله يفهم، يتراجع، إينما كنت استدعيه، مرة بالمخيلة، ومرة بالصوت، أنطق بصوت مرتفع وأجيب كأني هو، يتطلع إليّ الطلاب وبعض الأساتذة الذين أتعرف علىهم بسهولة الآن، يجيئني صوت الشيخ عبدالوارث، أحاوره بالصمت.
يلتفت الناس إلى إشارات يدي، منذ مجيئي إلى هنا لم أر من يتحدث إلى نفسه، أو ينطق منفردا بصوت عالٍ، أستيقظ عادة في السادسة مهما سهرت هنا، أنام ساعات قليلة لكنها عميقة، لا يرهقني إلا تقطع المدة.
لم أعد أبدي القلق، ما زاد أرقي طوال السنوات التي راحت ارتباطات الصباح، إقدامي على النوم وأنا متحمس لذهابي إلى المكتب أو النزول لمقابلة شخص ما، أمضي ساعة في الفراش، أستعيد الأحلام التي تبدو واضحة، أبقي الزجاج، أرفع الستارة، يمكنني رؤية الأشجار، رغم أنني ممنوع من استخدام الحاسب الآلي، أو قراءة المواقع.
إلا أنني أطالع المواقع الإخبارية خلسة، تغضب ماجدة، تخبرني بما يحويه بريدي وما تتضمنه البوابات الإخبارية، لا تحذف ولا تبدل لكنها تعرف كيف تسرب كل ما هو مزعج بهدوء، منذ خروجي من البيت قاصدا مكتب الاستقبال ألوح بيدي، القوم لطاف هنا، يبتسمون في الطريق، خاصة لمن يبدون غرباء، فارق التوقيت ثماني ساعات، قدمي تؤلمني من الحزن، تسرب الكمد إليها، انحنائي معتاد هذه الأيام، متشابه الملامح، يجيئني صوت الشيخ عبدالوارث?.?
?«خد بالك?.. انت مش ناقص?...»??
?«لكن المرة دي كثير?... حرق علم وشهداء في الصبح?..»??
?«شدة وتعدي?.. ياما شفنا?...»??
?«شفت مصريين بيحرقوا العلم، دا الحرب كلها كانت عشان العلم ده يفضل مرفوع?..»??
كأنه ينحني أو يبتعد بملامحه عني، ليس من السهل نزول صوته إلى هذه الدرجة، أتوقف، أقول لأول من يقابلني?.?
?«آه لو تعرف الثمن الذي دفعناه لتبقى هذه الراية مرفوعة?...»??
يتساءل الخال الأبنودي في ختام شعري كأنه كان يرى:
?«انت مين، ومنين يا عم?؟!».