رمضان شهر تتصفد فيه الشياطين، وتفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وأنزل فيه القرآن، وفيه ليلة خير من ألف شهر، فهو خير الشهور. ولهذا قال الزهري: «تسبيحة في رمضان أفضل من ألف تسبيحة في غيره». وروي عن ابن مسعود أنه قال: «سيد الشهور شهر رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة».ومن صح له رمضان صح له سائر السنة، ويجد البركة في سائر السنة! قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد (398/1): فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يوماً يتفرغون فيه للعبادة، ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا. فيوم الجمعة يوم عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الاجابة فيه كليلة القدر في رمضان، ولهذا من صح له يوم جمعته وسلم سلمت له سائر جمعته، ومن صح له رمضان وسلم سلمت له سائر سنته، ومن صحت له حجته وسلمت له صح له سائر عمره.فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر.
أمرنا الله تعالى بالصيام كما أمر الذين من قبلنا فقال: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). فثمرة الصيام الصحيح ونتيجته أنه مؤدٍ الى التقوى كما جاء في الآية، وهذا لا يتم الا بالاستشعار والتأمل كما سيأتي. فالصائم يترك ما لذَّ وطاب ابتغاء مرضات الله، حتى أنه يخرج من فم الصائم رائحة قال عنها عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (128/4): ويؤخذ من قوله (أطيب من ريح المسك) ان الخلوف أعظم من دم الشهادة لأن دم الشهيد شبه ريحه بريح المسك، والخلوف وصف بأنه أطيب.
ثم أخبرنا الله تعالى بأنها أيام معدودات، وهذا تنبيه لعدم تضييع هذا الشهر الفضيل بالمباحات فضلاً عن اللغو والمحرمات، والواجب استغلال هذا الوقت فيما يرضي الله سبحانه من أعمال متنوعة سواء كانت ظاهرة أو باطنة، بدنية أو مالية. وليس الهدف من الصيام ألا تأكل وتشرب من طلوع الفجر الى غروب الشمس فحسب، بل زيادة على هذا. والدليل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر) رواه ابن ماجه صححه الألباني. وقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في ان يدع طعامه وشرابه) صحيح البخاري.قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: والغرض من الصيام ليس ترويض البدن على تحمل العطش وتحمل الجوع والمشقة، ولكن هو ترويض النفس على ترك المحبوب لرضا المحبوب.
هناك توجيهات وتعليمات ثمينة وغالية، ينبغي على كل واحد منا ان ينتبه لها، منها: عند الصوم تذكر أنك تفعل هذا الفعل ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى لا لترائي الناس أو لتُمدح، وهذا الأمر يغفل عنه كثير من الناس. وكثير من الناس يقولون نحن عندما نرائي لا نشعر بذلك ونحتاج الى أحد يرشدنا وينبهنا، فما السبيل؟ الجواب: باستحضار النية. فاذا فعلت أي عمل استحضر النية أنك تبتغي ذلك وجه الله، واسأل الله القبول وأن ييسر لك أعمالاً صالحة أخرى. فالعمل الصالح مؤدٍ الى عمل صالح آخر، والعمل الخبيث مؤدٍ الى عمل خبيث آخر، والأعمال تجر بعضها بعضاً، فينبغي عليك ان تعظم العمل الذي تفعله وألا تهون من أمره، وكما قال بعض السلف: (كم من عمل صغير تعظمه النية، وكم من عمل كبير تصغره النية!).
ثم بعد ذلك تنتقل الى مرحلة أخرى وهي نتيجة وثمرة استحضار النية، وهي: ان تستشعر أحوال الفقراء والمساكين الذين يشق عليهم الحصول على قوت يومهم، وهذا الاستشعار والتذكر يجعلك تحمد الله أولاً على النعم التي أنعم الله عليك من مال ومأكل وملبس، وتتذكر انه اختبار وابتلاء ليختبرك الله أتشكر أم تكفر، أتؤدي حقوقها من زكاة أم لا؟ أتكون ممن يؤثرون على أنفسهم ويسارعون في الخيرات أم لست كذلك؟ فكم من غني وهو في الحقيقة فقير، وكم من فقير وهو في الحقيقة غني، وهذا يجرنا الى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض لكن الغنى غنى النفس) متفق عليه. قال السيوطي: حقيقة الفقر الافتقار من الايمان.
وبعد الذي تستشعره يجعلك تبادر في اعطاء الفقراء والمساكين الطعام والمال والمبادرة والمسارعة في سد حوائجهم. وفي أيام رمضان الذي يصومه كل مسلم (الا من عذر)، ترى جميع الناس ممتنعين عن الأكل والشراب والجماع وغيرها من المفطرات، وتراهم يجتهدون في اتيان المأمور واجتناب المحظور على الوجه الذي ينبغي، وهذا مطلوب لا شك فيه ولكن ينبغي ان يستمر هذا الاجتهاد والمبادرة في رمضان وفي غير رمضان حتى يصل الواحد منا الى مرتبة عالية في الايمان والاحسان، وذلك يكون مع الاستمرار والمجاهدة. كمن يريد ان يصبح لاعباً محترفاً أيعقل ان يجتهد في شهر واحد ثم يترك التمارين بعد ذلك؟! ومما يحزن أننا نرى بعض الناس يمسك عن الأخلاق السيئة من الفجر الى الغروب ثم بعد الافطار يعود لما كان عليه. ومن أبرز هذه الأمثلة: التدخين والسب والشتائم والغيبة وسوء الظن بالآخرين وغيرها كثير، وهذا والله عجب! كيف يسوغ لمسلم ان يترك شيئاً لله بعض يوم ثم يناقض نفسه في نصف اليوم الآخر؟ كيف يترك ما هو مباح وما هو محرم من باب أولى في النهار ثم يناقض نفسه ويفعل المحرمات في الليل! والأعجب من هذا أنه قد صام وصلى وبذل مجهوداً كبيراً في الطاعات من الفرائض والنوافل وقراءة القرآن وغيرها، ثم يتعمد بفعل المحرمات بعد الافطار! وهذا كمن يجمع ويجمع الحسنات ثم يوزعها على الناس! وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: ان المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا.فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته، قبل ان يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) صحيح مسلم. فليس المقصود من الصيام ان نترك الطعام والشراب فحسب - كما ذكرت-، بل ان تترك الطعام والشراب حتى ينتج نتيجة طيبة، وحتى يؤثر فينا تأثيراً ايجابياً من خلال حفظ اللسان والجوارح واستخدامها فيما يرضي الله جل جلاله، وهذا ما يؤدي الى تقليل الشهوات وتهذيب النفس والتخلق بأخلاق حسنة، وهذا مما يزعج الشيطان لأن هذه الأعمال الصالحة والأخلاق الطيبة تسد -باذن الله- مداخل الشيطان التي يدخل فيها على الانسان.
فشهر رمضان فرصة لكل واحد منا ان يراجع نفسه ويحسن سلوكه. وهذا ليس فقط مقصوراً في رمضان، فالواجب على كل واحد المبادرة في اصلاح نفسه في كل وقت وحين، ولكن المقصود طالما أننا في هذا الشهر الفضيل والأسباب مهيأة والأمور والفرص متاحة وميسرة أكثر في غيره من الشهور، فمن المخجل والمؤسف ان نرد هذه الفرص الثمينة، فهل يعقل ان الله يسر لنا هذه الأسباب والفرص ثم بعد ذلك نفوتها؟! وأذكر نفسي واخواني بما قاله عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في ان يدع طعامه وشرابه) صحيح البخاري. وقال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: (اذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء) سنن الصالحين(221/1).
[email protected]@Ashamsalden