«الراي» زارتهم في «عرائهم» وعاينت معاناتهم
3 فلسطينيين «عالقين» في المنطقة «الميتة» بين لبنان وسورية
| بيروت - من أسامة القادري |
1 يناير 1970
07:25 ص
• قرار لبناني يمنع دخولهم بعد اكتشاف تزوير في تأشيرات سفرهم إلى ليبيا
• الثلاثة يرفضون العودة إلى سورية كي لا يجبروا على القتال بجانب «النظام»
نحو 50 يوماً مرت على وجود ثلاثة فلسطينيين «عالقين» في المنطقة الفاصلة بين الحدود اللبنانية والسورية الرسمية، على خلفية معلنة هي ترحيلهم بعد توقيفهم في مطار بيروت بتهمة تزوير تأشيرات وخلفية مضمرة هي انهم فلسطينيون وممنوع دخولهم بعد قرار مديرية الامن العام اللبناني الذي حظرت بموجبه عبور الفلسطينيين والسوريين الى لبنان الا بقرار.
... كل شيء اصبح اسود قاتم اللون عند الحدود اللبنانية في نقطة المصنع، بنظر الممرض الفلسطيني حسام اليتيم الذي أبعدته السلطات اللبنانية الى نقطة المصنع الحدودية من ضمن 49 شخصاً كانوا متوجهين الى ليبيا عبر مطار رفيق الحريري الدولي، فبقي هو واخوه مصطفى وزميله أدهم موعد عند هذه النقطة لعدم قدرتهم على دخول الاراضي السورية كونهم منذ نحو سنتين لجأوا الى لبنان مع عائلاتهم وذويهم بعد تعرض مخيم اليرموك للقصف والحصار وتدمير منازلهم ما اضطرهم الى التشرد مرة اخرى، ولأنهم شبان مطلوبون للنظام السوري للخدمة الالزامية في جيش التحرير الفلسطيني.
الشبان الثلاثة كانوا اوقفوا من مديرية الامن العام اللبناني ومعهم 46 شخصاً آخرون غالبيتهم من الفلسطينيين في مطار بيروت في 3 مايو الماضي بتهمة ان الفيزا الى ليبيا على جوازات سفرهم مزوّرة. وحينها اُعلن «ان الأجهزة المعنية في المديرية تقوم باستكمال التحقيقات مع الموقوفين لكشف افراد شبكات التزوير وكل من له علاقة بهذا الملف وسوقهم الى العدالة». الا ان الاجهزة الامنية اللبنانية امتنعت عن احالة الأشخاص الـ 49 الى القضاء وعمدت بعد احتجازهم في المطار لمدة نحو 20 ساعة والتحقيق معهم في أحد مراكز الأمن اللبنانية الى حملهم على توقيع بعض الأوراق ثم تم إصعادهم إلى باص حيث أخبروا أنهم مرحّلون إلى سورية وممنوعون من العودة إلى لبنان.
وجرى نقل المجموعة الى ما وراء نقطة التفتيش اللبنانية في المصنع ووضعهم هناك في منطقة غير مأهولة بين سورية ولبنان. وفيما عاد 46 منهم الى سورية، علق الفلسطينيون الثلاثة في نقطة فاصلة بين الحدودين اللبنانية والسورية حيث يشعرون بأنهم يدفعون ثمن قرار بمنع دخول الفلسطينيين النازحين من سورية إلى لبنان عبر النقاط الحدودية (جديدة يابوس – المصنع اللبناني ) إلا في حالات استثنائية متروك تقديرها لموظفي هذه النقاط وسط تقارير صحافية تحدثت عن مراسلات بين الأمن العام اللبناني وقوى الأمن السورية دعت الى الكف عن إصدار الأوراق اللازمة للفلسطينيين الذين يعيشون في سورية من أجل الدخول الى لبنان لحين التنسيق مباشرة مع الأمن العام في لبنان.
«الراي» قصدت النقطة التي صارت «ارض» الشبان الثلاثة. وزيارتها تستدعي قطع تأشيرة مغادرة من عناصر الامن العام اللبناني في نقطة المصنع المزدحمة في الاتجاهين بالسوريين، ما قد يتطلب انتظاراً لنحو ساعة في طابور طويل.
هناك على بعد حوالي كيلومترين عن مبنى الجمارك اللبنانية ينتظر الشبان الثلاثة الذين رمتهم هويتهم الفلسطينية في منطقة بعيدة عن الحرية، ما يعيد الى الذاكرة مشهد سلطة العدو الاسرائيلي يوم أبعدت في التسعينات من القرن الماضي عشرات الفلسطينيين الى لبنان حيث قبعوا شهوراً في منطقة كانت تعرف بـ «المحرمة»، في مرج الزهور.
الفلسطينيون الثلاثة وببلوغهم الحدود مع لبنان اضطروا للمبيت خمسة ايام بين الشاحنات المركونة، قبل ان يمن عليهم رجل من بلدة مجدل عنجر بمسكن في غرفة كانت خصصت لايواء عمال مشروع الاوتوستراد العربي، وهم غير قادرين على الانطلاق شرقاً الى سورية، وممنوع عليهم العودة غرباً الى لبنان الذي هرب اليه ذووهم من تشرّد لجوئهم واستقروا في صيدا والجية بعدما فقدوا منازلهم وحياتهم في مخيم اليرموك في سورية.
وبنتيجة قرار الابعاد من الامن العام اللبناني وصل الفلسطينيون الثلاثة الى حيث رماهم قدرهم بين الحدود، باتوا ايامهم الاولى في العراء، استعملوا في البداية ادوات بدائية لتسيير امورهم وتحضير طعامهم وشرابهم واستفادوا من مياه الغسيل التي جمعوها من المطر، اما التدفئة في الليل فبالحطب الذي يشعلونه في «تنكة».
رفض الثلاثة «عروض» مهرّبي الاشخاص لإدخالهم الاراضي اللبنانية بطريقة غير شرعية، فهم يعتبرون ان قضيتهم محقة ويريدون العيش بحرية ويريدون السفر الى اي دولة.
لم يملوا الانتظار على قارعة الامل، رغم كل ما تلقوه من اجوبة من السفارة الفلسطينية والاونروا والجمعيات والصليب الاحمر الدولي، عبر اتصالهم بهذه المؤسسات، ليقبعوا بين مطرقة قرار منع دخولهم لبنان، وسندان حرب «شرّدت لجوءهم» ولا ذنب لهم فيها ولا يقبلون ان يكونوا طرفاً فيها.
وقال حسام اليتيم لـ «الراي»: «لا نقبل ان نقاتل الى جانب النظام، او الى جانب اي طرف آخر». يعدّل من جلسته القرفصاء، ليلوح بيده في إشارة للمسافة القصيرة التي يتحرك فيها ويضيف: «نقبل ان نبقى هنا سجناء بين الحدود على ان ندخل ونصبح قتلة، نحن فلسطينيون، وما يجري في سورية مسألة سورية لا علاقة لنا فيها».
بهذه الكلمات حاول ان يختصر سبب امتناعهم عن دخول الاراضي السورية بعد ابعاد السلطات اللبنانية لهم. كل همّه هو كيف انه ابتعد عن أطفاله الذين لا قدرة لهم على ان يأتوا ليروه خوفاً من ان يتحول مصيرهم كما مصيره فـ «حتى يصلوا الى هنا لازم يختموا مغادرة، وهيك بيصير بدن يختموا قدوم، ولا يُسمح للفلسطيني الدخول».
ويشرح الاشكالية التي اوصلتهم الى حيث هم، وبالنسبة اليه سبب الابعاد ليس كما تحاول السلطة اللبنانية الايحاء به اي انه بسبب تأشيرات دخول ليبية مزورة: «نحن قطعنا الفيزا من السفارة الليبية في مصر لعدم وجود سفارة في لبنان منذ اختفاء الامام موسى الصدر، اقارب وزملاء لنا سافروا بموجبها، وليست مزورة، فجأة في المطار تم تجميعنا في غرفة الامن العام، وصادروا منا جوازات السفر، وجرى توقيعنا على سند اقامة، وبعد مكوثنا 26 ساعة في الامن العام تم ابعادنا «ساقونا كأننا مجرمون».
... «تهمتنا اننا فلسطينيون، احنا وين ما نروح بتضيق فينا البلاد»، عبارة رددها اكثر من مرة المهندس العشريني ادهم موعد، مختصراَ مرارة الانتظار من دون ان تجد لهم السلطات في بيروت حلاً لدخولهم الى لبنان. «كأن هالقرار بقلّنا روحوا قاتلوا مع النظام»، واضاف: «نحن جزء من معاناة، واذا كان هناك كوكب آخر نذهب اليه ليدلونا عليه»، ليتابع ان المشكلة ليست فقط في لبنان انما في جميع الدول العربية والاوروبية «هناك فلسطينيون في تونس ومصر وليبيا ايضاً عالقون لا يستطيعون الانتقال الى دولة اخرى، وكأن الكرة الارضية ضاقت لأن تسعنا».
يهمّ الشاب المهندس لأن يحضّر فنجان قهوة الضيافة على غاز أُحضر حديثاً بعدما مل الثلاثة جمع الحطب. ويروي كيف وصلت بهم الاقدار الى هذه النقطة الفاصلة، شارحاً ان شهادة هندسة الكمبيوتر لم تسعفه لأن يجد طوال سنتين عملاً يسدّ منه رمق اسرته وكلفة الحياة في لبنان. ولأن جميع ابواب السفر الى اي دولة في العالم والعالم العربي اقفلت بوجهه كما الآخرين، حاولوا ان يحققوا حلمهم بالوصول الى احدى دول اوروبا عن طريق ليبيا ثم بحراً الى ايطاليا بطريقة غير شرعية.
ويوضح انه استحصل كما غيره على فيزا الى ليبيا عبر السفارة الليبية من مصر، مؤكداً «أن الفيزا قانونية وليست مزورة كما حاولوا ايهامنا، لاننا ايضاً لم نتعرض للمساءلة القضائية، بل ان زملاء لنا سافروا قبلنا بيومين، وجعلونا (في المطار) نوقّع على سند اقامة»، ولافتاً الى ان ترحيلهم جاء متزامنا مع قرار السلطات السورية بوقف تصاريح المغادرة للفلسطينيين، من فرع فلسطين.
وعن دور السفارة الفلسطينية والاونروا والجمعيات المعنية بهذا الامر، قال مصطفى اليتيم، وهو يرسم على محياه ابتسامة صفراء: «اتصلنا بكل الناس، أخبرنا السفارة بوجودنا، وبعد شهر ارسلت لنا 100 دولار، وبعدها ردوا قائلين: «شوفوا المفوضية بلكي بتسفركن»، ليتنهد متداركاً انهم محسوبون في الاساس على السفارة السورية «لأننا نحمل وثيقة سفر سورية، ومسجلون في السفارة السورية» انما المفوضية «قالت لنا شوفوا سفارة فلسطين، ولما أسمعناها جواب السفارة، ردت: لو محلكن بفوت تهريب».
ويشير مصطفى بيده التي يمسك بها هاتفه الجوال قائلاً: «منيح في تغطية للشبكة مخليتنا نتواصل مع الاهل والخطيبة»، رغم ان جميع اتصالاتهم مع الجمعيات والاونروا والسفارة لم تأت ثمارها: «احنا مش مجرمين احنا بشر، لكن كل العالم متآمر على الفلسطيني». وهذه العبارة كثيراً ما رددها الشبان الثلاثة على خلفية الطريقة التي سيقوا فيها الى نقطة المصنع.
واضاف مصطفى: «معقول؟ نحنا ما دخلنا خلسة الى لبنان، حتى يتم توقيفنا بالمطار، وتكبيلنا داخل الباص حتى المصنع. ليش بدن ايانا نكون طرف في الصراع اللي داير في سورية؟ عشان هيك نحن ما بنقدر ندخل سورية حتى ما نخدم الزامية في الجيش ونصبح طرف في الصراع».
ويجمع الثلاثة على مطالبة منظمة التحرير الفلسطينية، كونها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، بأن تجد حلاً مع السلطات اللبنانية لادخالهم الى لبنان دون العودة الى الامن العام السوري او تسفيرهم الى اي بلد آخر، «كوننا كنا في لبنان وتم ابعادنا»، كما ناشدوا المجتمع الدولي تطبيق القرار 194 الصادر عن الامم المتحدة اي عودتهم الى موطنهم الاصلي فلسطين، «ما دام لم يعد هناك اي بلد يستقبلنا».
مصدر في الامن العام اللبناني اكد ان القرار بمنع دخول الفلسطينيين الى لبنان، جاء على اثر ضبط 49 فيزا الى ليبيا مزورة، موضحاً انه «تم التحقيق مع الاشخاص في مطار رفيق الحريري ثم جرى ترحيلهم، وجميعهم من التابعية الفلسطينية ولاجئين فلسطينيين في سورية». وتابع المصدر «ان قرار منع دخول الفلسطينيين إلى لبنان يُعمل به منذ ذلك الوقت، واي فلسطيني يريد الدخول الى لبنان يحتاج الى قرار، ولذا تشهد نقطة المصنع الكثير من الحالات تعود أدراجها الى سورية فور تفاجئها بالقرار».
فيما اشار احد العاملين في نقطة القدوم، ان حالات كثيرة منع من دخولها، وأكد ان امرأة سورية متزوجة من فلسطيني سوري ولديها طفلة عمرها لا يتجاوز سنة سُمح لها بالدخول الى لبنان فيما مُنعت الطفلة، ما جعل المرأة تعود ادراجها الى سورية.