خواطر تقرع الأجراس / سيزيف العربي
1 يناير 1970
03:38 م
أنصحكم بقراءة أساطير الشعوب من كل تراث العالم. فالأسطورة حكاية رمزية مكثفة تحمل وعي الإنسان ورؤيته للكون والحياة، وليست ترفاً فكرياً وقفاً على النخبة المثقّفة. والأسطورة حمّالة أوجه تتعدّد تفسيراتها، وتتجدّد مدلولاتها عبر العصور. والأدباء بعامّة، والشعراء بخاصّة، هم أكثر المبدعين الذين يوظّفون الأسطورة، ويبثّون فيها من خيالهم ورؤاهم ما يجعلها حيّة عبر العصور.
أسطورتنا اليوم عن سيزيف الإغريقي. هو مؤسّس مدينة كورنثوس وملكها. كان متمرّداً مجرماً من نوع غريب، فهو طموح، والطموح أحياناً جريمة. وكان غير مؤتمَن على الأسرار الإلهية.وتوّج طموحه بأن خدع الموت، حين أرسله إليه زيوس، فقيّده سيزيف حتى كادت مملكة الجحيم تخلو من الوافدين الموتى الجدد! وتدخّل زيوس بنفسه فأنقذ الموت من بين يدي سيزيف الطموح المتمرّد. وقيل إن هرقل هو الذي فكّ قيود الموت وحرّره.
وقد هرب سيزيف من الجحيم بعد نزوله إليه. لكنه لقي عقاباً أبدياً؛ فحكمت عليه الآلهة بعد اعتقاله بأن يدفع في الجحيم صخرة كبيرة إلى أعلى قمة الجبل المقدَّس، حتى إذا قارب سيزيف من الوصول إلى القمة ليتحرّر من حكم العذاب الأبدي، هوت الصخرة إلى الحضيض، وعاد سيزيف من جديد يحمل الصخرة ويدفعها إلى القمة على أمل الوصول والاستقرار ونيل الحرية. هذه العقوبة الإلهية هدفها منع سيزيف من التفكير بحيلة جديدة تقلق الآلهة، وتفسد عليها قوانينها!
لكن سيزيف غزا الأدب العالمي، ومنه العربي. لأن الشاعر العربي رأى نفسه في سيزيف، ليس كفرد، بل كإنسان عربي عام، من المحيط إلى بعض مدائن شواطئ الخليج.
سيزيف العربي يرتكب جريمة الطموح! يريد أن يخدع الموت المحيط به، ويعتقله ليحيا.سيزيف العربي يحب الحياة فيتمرّد على الموت. يسعى إلى هتك أسرار (الآلهة) التي تتحكم في مصيره، فهو غير مؤتمّن على أسرارها.
سيزيف العربي يدفعه طموحه إلى التفكير في حيَل جديدة ليحقق ذاته. لكن زيوس العربي، ورديفه هرقل محررالموت من براثن سيزيف، قرّرا أنه يجب عليه أن يحيا في هموم تشلّ تفكيره حتى لا يجد فراغاً في التفكير الطّموح المتحدي للموت. حكمت عليه الآلهة العربية بحمل صخرة العذاب الأبدي يدحرجها إلى قمة الوصول حيث الخلاص والحرية من العذاب الأبدي، لكنْ عبثاً. فالآلهة له بالمرصاد.
لذلك ترى سيزيف العربي مشغولاً بلقمة عيشه،حتى لا ينشغل بهتك أسرار الآلهة: الديون، والقروض، تنهشه نهشاً الوقوف لساعات طوال، في الحر والقر، في طوابيرالأفران للحصول على رغيف مغمس بالدم، ومعجون بالعرق والهم،والتسمُّر في طوابير الجمعيات الاستهلاكية من أجل حفنة من السكر، أو الرز المسوَّس... والعمل في ساعات الفراغ ليلاً ونهاراً... كل ذلك لقتل تفكير سيزيف العربي المحتال ونزع التمرّد من ذهنه الخبيث. فلا إبداع في مجتمع الطوابير الاستهلاكية. لا وقت للتفكير في التآمر على أسرار الآلهة. لا وقت لتقييد الموت ومنعه من ممارسة حقه الإلهي في قبض الأرواح المتمردة!
ترى هل سيبقى سيزيف العربي يدحرج صخرة عذابه الأبدي؟ هل سيبقى يدحرج أحلامه في الوصول إلى قمة الخلاص؟ وهل سيبقى زيوس وهرقل أنصاراً للموت، يحرّرانه من بين براثن المتمرّد اللعين، حتى لا تخلو مملكة الجحيم من الموتى من وافدين جدد، لتحيا الآلهة فقط؟
أرأيتم روعة الأساطير البشرية؟ اقرؤوا قصصها بعين الحاضر والمستقبل، لا الماضي فقط، تجدوا أنفسكم فيها. ربما تجد نفسك أنك زيوس أو هرقل. وربما تجد نفسك أنك سيزيف الطموح، المتمرّد، المحكوم عليه بصخرة العذاب الأبدي. لكنّ كاتباً فرنسياً خبيثًا (ألبير كامو) جعل سيزيف ينتصرعلى هرقل وزيوس ولعنة الصخرة الأبدية... بالأمل!
*كاتب سوري