«الولاء»... خلط أوراق سياسية - رياضية
| بيروت - من آمنة منصور |
1 يناير 1970
07:21 ص
هي المدينة الراكدة بـ «روتين» ازدحامها الدائم بالناس، الراكنة الى صيغ «العيش المشترك» و«مواثيق» الاخوة في يوميات احيائها المتقابلة سياسيا والمتداخلة اجتماعياً بحكم المصاهرة والجيرة. هي العاصمة ذات الجغرافيا المعتادة على الانزلاق بين الحين والآخر نحو «الاحتراب» لكنها سرعان ما تسمو فوق التناقضات لانها تلم كذاكرة عريقة من التسامح.
بيروت المفطورة على الانقسامات، من الدين الى السياسة مروراً بطبقات الغنى ودرجات الفقر فضلاً عن الآراء المتقاطعة والمتنافرة في الطبخ والفن والموضة، لطالما طيّبت خاطر نفسها بنفسها لتستعيد «نبضها الطبيعي» في اعقاب كل خلاف واختلاف، وحدها حمى كأس العالم التي تستشري في ازقتها «عمودياً وافقياً» كل اربع سنوات، لا ترضى بتفاهم او ترتضي بـ «عقد اجتماعي» بين اللبنانيين يضمن تعايشهم او ايجاد مساحة «كروية» مشتركة في ما بينهم فهي لا تنفك تقض على العاصمة مضجعها مع حلول كل «مونديال» لتحيي الخصومات بعد سبات، وتعيد رسم خطوط التماس الكروية بعد ان تصنف اللبنانيين بين «صديق حميم» و«عدو لدود».
فلبنان الذي ما تأهل يوماً الى كأس العالم، لطالما وضع نفسه في قلب الحدث، لتعيش مدنه وقراه المهرجان الكروي من ألفه الى يائه، ولاسيما العاصمة التي شرعت احياءها امام المد الرياضي الجارف، فاذا بها تتلوّن بسحر مدريد وتتألق بأجواء روما ومزاج بوينس آيرس، وتتماهى وصلابة برلين وحيوية باريس وتلتهب تحت شمس ريو دي جينيرو.
واذا كانت الازقة البيروتية دائمة الانشغال بالخبر الامني والحدث السياسي والتطور الاقتصادي الذي يرسم ملامح يومياتها ويقطر عليها رزقها او يحسنه، فان الخبر العاجل المستعجل الآتي من البرازيل يتصدر اليوم كل اهتمام ويستحوذ على كل حديث. ولاسيما مع تسليم اللبنانيين بالعجز عن الخروج من الشغور الرئاسي والتخلص من الركود الاقتصادي حتى اجل غير مسمى.
وفي «زمن المونديال» يصبح خجولاً حضور الرايات الحزبية في الاحياء التي اصطبغت على مر اعوام خلت بألوان التموضعات السياسية ففي النويري والبسطا المحسوبتين على «حزب الله» وحلفائه وعلى رأسهم حركة «امل» تتغير ملامح المحلتين ويبهت حضور ابرز معالمهما من اعلام حزبية، بعدما تحولتا من معقلين سياسيين الى معقلين كرويين.
في الشارع التجاري الطويل في منطقة النويري الشعبية، التي تختلط فيها لكنات البيارتية الاصلية مع البيارتة الجدد من الوافدين الجنوبيين والبقاعيين تتجلى بيروت «ملتقى الحضارات» في اعلام امم ما وراء البحار التي تتعلق على اعمدة الكهرباء وتتوزع على شرفات مبانٍ فخمة واخرى متهالكة استنفدت معظم عمرها الافتراضي، اما في وسط الشارع فتتكثف اعلام المارد الألماني والعملاق البرازيلي على اشرطة متوازية تظلل السيارات والمارة.
تجاور الخصمين الكرويين التاريخيين في زينة واحدة يبرره احد الباعة بـ «موازين القوى» بحسب ما يقول، مشيراً الى ان «فسحة التعبير هنا تضيق على اتساع المنتخبات الاخرى التي لا وزن لها، اللهم الا بعلم يتيم على هذه النافذة او تلك لايطاليا او اسبانيا واحياناً الارجنتين وفرنسا».
الباعة الذين يتحفظون عن اشهار «ولاءاتهم» الكروية داخل محلاتم حرصاً على عدم خسارة زبائنهم مع اشتداد «الفرز» الكروي يسرون لـ «الراي» بآرائهم المؤيدة ومواقفهم المعارضة والمخاصمة لهذا المنتخب او ذاك، مؤكدين ان «الزبون دائماً على حق ويبقى ما في القلب في القلب».
على بعد امتار قليلة، الحدث العالمي حاضر بقوة في الطريق الجديد التي لبست «حلتها» الكروية. هنا ايضاً تغلب النقاشات والتوقعات الكروية على اي حديث آخر، شأنها في ذلك شأن كافة المناطق اللبنانية التي استسلمت لمراوحة الملفات السياسية والمطلبية مكانها، فأعادت ضبط ساعتها وهندسة جدول يومياتها على ايقاع المباريات وتوقيتها.
من صبرا الى الدنا فالملعب البلدي وصولاً الى عفيف الطيبة والكولا، تنتشر المتاجر المخصصة لبيع الاكسسوارات المواكبة للحدث: نظارات، علاقات مفاتيح، اغطية هواتف، اوشحة، قمصان تحمل اسماء اللاعبين، واعلام لابرز المنتخبات بأحجام متفاوتة تناسب كل الاغراض والاذواق، الزبائن الذين حضروا للتزود بحاجياتهم «الاستعراضية» ولوازم التشجيع و«التزريك» من زينة المنازل والسيارات، لا يتوانون عن احداث بعض المناوشات لاسيما بين «المان وبرازيليين» من ابناء المنطقة، لينم «تعصبهم» الرياضي عن صيف حافل من «الاشتباكات الكروية»، اما «الطليان» فيتجنبون الرد على خصومهم مكتفين بعبارة «غدا يذوب الثلج ويبان المرج» متوعدين كل من «يعاديهم» بأهداف تهز شباكهم «ليكون الكأس من نصيب ايطاليا في هذا العام».
واذا كانت «الاحلاف الكروية» اعادت تصنيف سكان الحي الواحد وفرزتهم بين حليف وخصم «فربّ اخ لم تلده امك» يشاطرك الولاء والانتماء الكرويين ويعيد وصل ما قطعته السياسة من روابط الصداقة والجيرة بين احياء المدينة الواحدة. فعلم البرازيل المرفوع على شرفتين متوازيتين في الطريق الجديدة وبربور كأنه «رابط دم» يجمع بين جبهتين متقابلتين لطالما «اشتعلتا» عند كل تصريح سياسي لهذا الزعم او ذاك، وعلم ألمانيا في احد مباني مار الياس المختلطة سنة وشيعة، ينفض عن علاقات الجيرة غبار سنوات الانقسام السياسي والحساسيات المذهبية، بعدما اختار قاطنو المباني اشهار ولائهم المطلق لفريق المانشافات في العرس الكروي.
للمقاهي حكاية اخرى مع الحدث الكروي من بلاد البن الشهي والرقص المبهر، فتراها تتنافس من الاشرفية الى المنارة والروشة وفردان في استعراض العدد الاكبر من الاعلام وابتداع اجمل شعارات الترحيب بكل مشجع اياً يكن انتماؤه الكروي.
غالبية «الكافيهات» اعدت العدة لـ «المنافسة» في ما بينها، ففضلاً عن الشاشات العملاقة التي تبث المباريات والزينة والاخاذة التي تثير اعجاب الكبير والصغير، تخصص المقاهي لزبائنها «menu» مميزاً من المشروبات والمأكولات، بالاضافة الى «اطيب نفس ارجيلة» بنكهاتها المختلفة.احد القيّمين على مقهى لا يخفي تأييده المطلق للبرازيل، فانتماؤه «لا يفسد في الود قضية» مع زبائنه، وتنوع المشجعين في رأيه يشعل الاجواء ويجعلها اكثر متعة وحماسة، وهو يعوّل على اقبال كثيف، لاسيما مع «تحزّب» كل اللبنانيين كروياً ومبالغتهم في التعبير عن مواقفهم الرياضية بأعلام أجنبية ترتفع على السيارات وتجوب الشوارع البيروتية، وكأن لبنان «ابتلعه» العالم بكأسه وبات علمه نسياً منسياً.