مقال / حين يُحرق اليقين!

1 يناير 1970 09:06 م
أحسبُ أن الكثيرين من أبناء البلدان العربية سيتابعون مجريات كأس العالم الحالي، وخصوصاً منهم الذين تسعى بلدانهم، وسط التنازع والاقتتال والدماء الكثيرة، إلى العثور على الطريق المؤدية إلى الخلاص!

فحين تتراكم الهموم في حيوات أصحابها، وتتكدّس المصائب والآلام، وتثقل عليهم بما لا طاقة لهم على تحمّلها، ولا سبل أمامهم للخلاص منها، وحين تصبح حياة الفرد مساوية قلامة ظفر، وأحلامه التي أسّسس عليها أضغاث أحلام، ويستوي وجوده مع عدمه سوى أن يكون رقماً على شاشات التلفزة لا يزيد على الدهشة ولا يُنقص منها...

حينها يعاف المعنى. يُكذِّب كل شيء، ويلعن كل شيء، ويكفر بكل شيء. حينها يستوي، لدى المنكوب، الحق مع الباطل، وتلتبس عليه الطريق المؤدية إلى الخلاص مع الطريق المؤدية إلى الهلاك.

يصعب، أو يستحيل، أن يتحمّل الإنسان الآلام إلى ما لانهاية. «أيوب» الذي تحمّل آلاماً تفوق قدرة أي بشري، وصبر... هو عظة في حكاية. دعوة للصبر. تبشير بأن بعد كل ضيق، مهما اشتدّ، فرجاً أكيداً.

أيوب حكاية. والبشر بشر من لحم ودم وأعصاب وقدرات ليس من تكوينها أن تدوم وتعمل وتتحمّل إلى ما لانهاية. في رسم كاريكاتيري تظهر «لمبة» سوداء محروقة، كتب الرسام تحتها جملة تقول: «في نهاية هذه اللمبة نفق». وفي رسمين لفنان آخر نرى في الأول رجلاً يجاهد في صعود مرتفع مجاهدة عنيدة للوصول، فإذا ما نقلنا أبصارنا إلى الرسم الثاني وجدنا المرتفع دائرياً يلتف على نفسه!

تحت كابوس كهذا لابدّ من «خلاصٍ» منه بالانشغال عنه. في مرحلة من مراحل تعذيب السجين، حين يتفنن الجلاد بأساليبه، ويقوى الألم ويشتدّ ويتصاعد، بحيث يغادر دائرة العقل والأحاسيس ليدخل في متاهة الجنون واللامعقول، ينهز السجين ـ فجأة ـ مندفعاً كسهم نحو الجدار ليضرب رأسه به ضربات متتالية، عنيفة، علّها تتهشم، فينال الخلاص من آلام التعذيب «براحة» الموت!

نساء كثيرات، ورجال كثيرون من البلدان العربية المنكوبة، حين بوغتوا بأن أفراد أسرهم قد لاقوا حتفهم جميعاً، وأن منازلهم سوّتها الحرب بالأرض، أشرعوا أيديهم، ورفعوا رؤوسهم نحو السماء، وراحوا يتقافزون فوق الأرض بما يشبه «الرقص» ويطلقون أصواتاً بما يشبه «الضحك» ويهرولون نحو اللاهدف علّهم، بذلك كله، «يلهون» عن ما أصاب حيواتهم من انهيارات لا يحتملها بشري.

مهرجان كرة القدم لهذي الدورة سيكون، لدى العديد من أبناء بلداننا العربية المنكوبة، مدفناً صاخباً للرؤوس. أحسب أنهم سيرفعون أصوات أجهزة التلفاز ليعلو صوت الصخب والضجيج على أصوات القذائف وصراخ الجرحى وآهات القتلى قبل موتهم، والذي لم يعد بإمكان الكائنات البشرية التي ما زالت حيّة تحمّل سماعه. سيرفعون صوت أجهزة التلفاز ليستعيدوا ذكرى ما كانوا عليه وكادوا ينسونه من الحياة. سيكون ما يجري في الملاعب ملجأ مؤقتاُ، ضجيجاً يصمّون بهم آذانهم عمّا يجري بحقهم وحق أبنائهم وأقربائهم من ظلم وحيف وقهر وتجويع وإهانة ومصادرة وتشريد واعتقال وقتل. سيريحون عيونهم من مشاهد الدم حتى لا تفقد قدرة التمييز، وقد فقدت أرواحهم وقلوبهم وعقولهم كل يقين على وجه الأرض.