هو شاعر النبط الكبير محمد بن عبدالله القاضي من بني تميم القبيلة العربية... من أكثر شعراء النبط وأغزرهم انتاجا وأقواهم معنى... شهد له الجميع وأشاد به نقاد الشعر النبطي على اعتبار انه من الظواهر الفريدة بالشعر النبطي القليلة التكرار.
ولد شاعرنا في (عنيزة) بالقصيم سنة 1224هـ وفيها توفي سنة 1285هـ عاش حوالي 61 سنة نبغ بالشعر منذ صغره وكان حاوياً للخصال الحميدة، فقد كان القاضي رحمه الله كريما إلى حد يفوق الوصف حتى انه لما قال قصيدته المشهورة في مدح أهل عنيزة بلدته والتي منها هذه الأبيات:
يا عل براق حقوق خياله
محن مرن مرجحن وهطال
يسقي مفالي ديرتن ضم جاله
ما يعجب الناظر يشوفه ويهتال
دار لنا وادي الرمه هو شماله
غربية الضاحي وشرقية الجال
دار لنجد مشرّعه كم عنا له
راجي ومحتاج ولا جي ونزال
ولما نظم تلك القصيدة قال له أمير «عنيزة» بذلك الوقت «عبدالله بن سليم» بماذا تكون المكافأة أيها القاضي؟
فقال القاضي مكافأتي أن تكون عندي ضيافة كل ضيف يأتي لكم في اليوم الثاني بعدكم مباشرة... لا يسبقني أحد.
فقال الأمير هي لك وكان القاضي رحمه الله من الوجهاء الأغنياء في بلدته... ولما بلغ الأربعين من عمره توقف تدريجيا عن نظم الشعر وتوجه إلى أمور الدين ودراسته فنسخ صحيح البخاري كاملاً بخط يده علما بأنه كان معتدلا في بداية حياته بالغزل.
وبالرغم من نظمه للغزل وابداعه فيه كشاعر كبير إلا انه كان عذرياً سليم الهدف بغزلياته وما رواه الرواة عنه ان هناك بعضا من أصدقائه تحدوه بأن ينظم قصيدة طويلة كاملة لا يذكر فيها بيتا واحدا في الغزل وبالفعل نظم القاضي قصيدته المشهورة والتي اختار موضوعها وصف القهوة مطلعها:
يا مل قلب كل ما لتم الأشفاق
من عام الأول به دواكيك وخفوق
إن عن له تذكار الأحباب واشتاق
باله وطاف بخاطره طارى الشوق
قربت له من غاية البن مالاق
بالكف ناقيها عن العذف منسوق
أحمس ثلاث يانديمي على ساق
ريحه على جمر الغضا يفضح السوق
حذراك والنيه وبالك والأحراق
واصحا تصير بحمسه البن مطفوق
ولما أشرف القاضي على نهاية القصيدة ولم يتغزل عرف الأصدقاء انهم مغلوبون لا محالة وأمروا امرأة بالمرور أمامه رافعة طرف ثوبها ليتبين الحجل فلما مرت أمامه أردف القاضي يقول وقد شطح عن موضوعه الأساسي.
يحتاج من بيض العذارى إلا فاق
غرو يمز شفاه والعنق مفهوق
عبث يعيل بحبته ما بعد ماق
وهو يضاهي زاهي البدر بشعوق
في وجنتيه إلا غنج ضوح براق
عجل رفيفه بالطها مزنه طبوق
سحر كتب من حبر عينيه بأوراق
خديه صادين ونونين من فوق
كن العرق بخدودها حص الأرناق
نثر على صفحات بلورة الشوق
إلا تبسم شع واشرق بالآفاق
نوره يفوق البدر سحر منطوق
بالعنق كن المسك والورس براق
ما مشخص في صدري الشاخ مدفوق
أبو دليق كن باطرافه حلاق
حدر البريم وهافي الوسط مسروق
يمشي برفق خايف مدمج الساق
ويفصم حجول ضامها الثقل من فوق
أظن لو يمشي شقاق بالأسواق
من الملا ما يمطخ الخمس مخلوق
إلا حصل لك ساعة وانت مشتاق
فاقطف زهر مالاق والعمر ملحوق
فايلا حضر ما قلت عندي فالارزاق
في يد كريم كافل كل مخلوق
هذا وصلوا عدد ما نض براق
على النبي الهاشمي خير مخلوق.
وقد كان شاعرنا القاضي ذا علم فكان يعرف حساب النجوم والأنواء ومواسم المطر والزراعة وقد جمع علمه هذا بقصيدته المشهورة والتي منها هذه الأبيات:
ترى أول نجوم الليل سبع وصايف
كما جيب وضحا ضيع الدرك دالق
أو نعل شاخ والتويبع تبيعها
وفي برجها الجوزا كما الدال دانق
ترفع بها عاهات الأثمار بسطه
نهايات قصر الليل عشر الدقايق
وكان بهذا العلم قد جدد ما بدأه الخلاوي حيث كان هو السبّاق إلى نظم القصائد بحساب النجوم والأنواء إلا ان القاضي قد أضاف معلومات جديدة وعالج الموضوع معالجة جديدة موضوعية تختلف عن معالجة الخلاوي للموضوع نفسه.
ويعد النقاد قصائد القاضي في كل معنى يتطرق له قمة الأشعار النبطية تقاس عليها قصائد باقي الشعراء حيث أصبح الشاعر مضربا للمثل كقوله:
بالدمع باسم الله يا عين مجراك
محاجر البحرين جفنك عن العين
يرعد سماك ويمطر الدمع من ماك
لا صاح به زجر الملك ساقه البين
اليا عذلتك زاد نوحك وبلواك
تسرين في سفك المدامع وتجرين
بالعون يا عين الخطا صرت وياك
مثل الخطية دايم الدوم تشنين
وفي أواخر أيام شاعرنا محمد القاضي اعترته الأمراض فأنهكته وهدت قواه وبدأ يصارع المرض حتى صرعه المرض فتوفاه الله وكانت آخر قصيدة قالها في حياته قصيدته المشهورة والتي سميت «توبة القاضي» وفيها يتجه إلى الباري عز وجل يطلبه العفو ومنها هذه الأبيات:
يا محل العفو عفوك يا كريم
ولطفك اللي كافل كل الأنام
يا سميع يا بصير يا عليم
يا قوي يا متين يا سلام
يا حميد يا مجيد يا حكيم
يا عزيز ذو الجلال والإكرام
موحد يدعيك بالليل البهيم
بالتخضع والتضرع بالظلام
خاشع لك خاضع لك مستقيم
أسألك وادعيك باسماك العظام
أن تروف بحال من جسمه سقيم
علته تبراه من خمسة عوام