جاسم بودي / الرأي اليوم / ضياع البلد

1 يناير 1970 07:12 م

لم يتوقف كثيرون عند مغزى أن توافق الحكومة على زيادة الخمسين وصندوق المعسرين. تنفسوا الصعداء لأن «أزمة» انزاحت من طريقهم ولم تؤد إلى توترات بين السلطتين. رحبوا بالتوافق واستمعوا إلى الوزراء وهم يعتبرون أنفسهم منتصرين متفوقين، لأن الاقتراح أقر رغم معارضة بعض النواب أو انسحاب بعضهم الآخر.

لم يتوقف كثيرون عند المغزى أو العبرة، لأن الجرافة السياسية الكويتية تجب ما قبلها وتقلص الذاكرة وتجعلنا «أبناء اليوم»... ومع ذلك نقول إن العبرة الأولى السريعة هي وجود حكومة لا تملك رؤية ولا استراتيجية وفاشلة حتى في التكتيك اليومي.

حلان دستوريان تعرض لهما مجلس الأمة في سنتين. الأول جاء على خلفية رفض الحكومة تحرك عدد من النواب لإقرار الدوائر الخمس ورفعها كتاب عدم تعاون لاستحالة تحقق ما يطالب به أقطاب ساحة الإرادة وضرره المفترض على الحياة السياسية... ثم تفرز الانتخابات مجلسا أول عناصر «التعاون» بينه وبين الحكومة هو تقديم الأخيرة اقتراحا بقانون لإقرار الدوائر الخمس. والحل الثاني أتى على خلفية رفض الحكومة زيادة الخمسين وصندوق المعسرين ورفعها كتاب عدم تعاون لاستحالة ما يطالب به عدد من النواب وضرره المفترض على ميزانية الدولة ومستقبل الأجيال والحالة المالية للدولة... ثم تفرز الانتخابات مجلساً أول عناصر «التعاون» بينه وبين الحكومة هو تقديم الأخيرة اقتراحا بقانون لإقرار الخمسين والصندوق.

هذا هو التفوق الحكومي... هذا هو الانتصار.

لا نريد العودة إلى تصريحات الوزراء قبل الحلين لنقارنها بمثيلاتها بعد الحلين. نعود فقط إلى تصريحات الوزراء قبل أربعة أيام من إقرار زيادة الخمسين وكيف تغيرت بعد لقاء صاحب السمو الأمير الرئيس جاسم الخرافي وأعضاء اللجنة المالية البرلمانية. قال وزير المالية بالحرف في 22/6/2008 إن زيادة الخمسين «مرفوضة» وان الحكومة «ستثبت رفضها في جلسة الرابع والعشرين» (أي بعد يومين من تصريحه) وان الزيادة التي أقرتها الحكومة في وقت سابق «مناسبة وكافية ولا مبرر من الاقتراح النيابي بزيادة الخمسين ديناراً».

أمور فنية وتقنية ومالية قد تكون صحيحة وقد لا تكون. لسنا في وارد مناقشتها أو الانحياز إلى وجهة نظر دون الأخرى في ما يتعلق بالمشاريع المالية أو السياسية. نريد أن نحيل المشهد برمته إلى من يتساءل عن تراجع هيبة الحكومة (أداة الحكم في إدارة الشؤون التنفيذية) في مقابل تقدم الصوت العالي، ونقول له إليك الجواب... وهل من جواب يصفع أكثر من هذا الجواب؟

مثلان حاضران راهنان نسوقهما من عشرات الأمثلة للدلالة على استنتاج الهيبة المتراجعة و«الانتصارات» الحكومية الوهمية. لا نقول إن بعض النواب محقون في تغليب مصالحهم الانتخابية والقبلية والذاتية على المصلحة العامة. لا نقول إن الصوت العالي أثبت نجاحاً قل نظيره في مواجهة الحكومة. لا نقول إن اللعب على الوتر الشعبي بدل الانصراف إلى التشريع هو السياسة المثلى... نقول إن الحكومة إذا استمرت في نهجها الحالي فإنها تدفع بالحياة السياسية إلى الهاوية وبالبلد إلى الضياع.

هذه هي العبرة الثانية غير المتسرعة.

 إما أن تكون الحكومة، ذراع النظام والحكم التنفيذية، صادقة مع نفسها ومنسجمة مع قراراتها ومدركة لما تفعل ومدافعة عن مواقفها، وإما انها لا تدري ماذا تفعل ومتقلبة في قراراتها ومتراجعة عن مواقفها ومنسحبة عند الصوت العالي. في الحالة الاولى اسمها حكومة قرار مهما كان القرار صعبا، وفي الحالة الثانية اسمها حكومة تأزيم مهما كانت التسويات معها سهلة ومهما كان الانفراج مرحليا وظرفيا، والدليل اننا قد نشهد في الخريف المقبل مثلا طرحا نيابيا ترفضه الحكومة ثم تعود لتتقدم هي به بعد حل وانتخابات.

نعم، نحن مع تقدم المجتمع الكويتي ورفعته وحقوق أفراده. ومع كل ما يخفف عن كاهل المواطن الأعباء والقيود، ومع اطلاق مشاريع انتاجية تحرك عجلة التنمية وتجعل الكويتي شريكا فاعلا في البناء والحصاد لا متكئا على دعم الدولة فحسب... ولكن قبل ذلك كله نحن مع حفاظ الحكومة على هيبتها لانها ضرورة لاستقرار النظام وبقاء الكويت.

اليوم، تهرب الرساميل من الكويت الى دول أخرى، وتتسلل الاستثمارات عبر كل المنافذ الجوية والبرية والبحرية الى اماكن اكثر امنا واطمئنانا، وتتراجع الكويت في تقرير البنك الدولي الى المرتبة الخامسة في الاستقرار السياسي والسادسة في جودة التشريعات... فمن يدري كيف يكون شكل التنازل الحكومي المقبل.

اليوم، الثقة في هيبة الحكومة في ادنى مستوياتها وغياب الثقة يعني اهتزاز الاستقرار واهتزاز الاستقرار يفتح الابواب على كل الاحتمالات.

اليوم، صارت التنازلات نهجا حكوميا ثابتا، ومن يعط بغير اقتناع وبهذه الطريقة فلن يبقى له غدا ما يعطيه، وسيبحث المطالبون عندها عمن يلبي لهم المطالب التي تعجز الحكومة عن تلبيتها، وقد ينتج من ذلك ربما تغيير الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمؤسساتي.

هل جرعة التشاؤم كبيرة؟ صحيح. ونتمنى ان نكون مخطئين، بل نصلي حقيقة كي نكون مخطئين.


جاسم بودي