من الصعب أن يعيش المرء بلا أنيس، فلا يخلو أحد منا إلا وله صاحب، وكلٌّ يدعي أن صاحبه هو الأفضل وإلا لما صاحبه، وكما قيل: كلٌّ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك. والنبي صلى الله عليه وسلم حثنا على الصحبة الصالحة، فقال: (لا تصاحب إلا مؤمنًا) رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن وحسنه الألباني. قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: قوله: لا تصاحب إلا مؤمناً، أي كاملاً، بل مكملاً، أو المراد منه النهي عن مصاحبة الكفار والمنافقين، لأن مصاحبتهم مضرة في الدين، فالمراد بالمؤمن من جنس المؤمنين. اهـ. وقال عليه الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) صححه الحاكم ووافقه الذهبي. ولهذا قيل في الأمثال والحكم المشهورة: «لا تسأل عن المرء ولكن اسأل عن صاحبه».
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن حين يقال «عليك بالصحبة الصالحة»: من هو الصالح؟ يجيب على هذا السؤال العلامة ابن عثيمين- رحمه الله- في شرح «كشف الشبهات»: الصالح: هو الذي قام بحق الله وبحق عباد الله. اهـ. حق الله شرحه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (حق الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا) رواه البخاري. وهو باختصار: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب كل ما نهى عنه وزجر، وألا تعبده إلا بما شرع وقرر. وحق العباد على العباد ألا يظلموا بعضهم البعض، قال عليه الصلاة والسلام: (تكف شرك عن الناس فذلك صدقة) متفق عليه. وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الجليس الصالح بحامل المسك؛ إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه رائحة طيبة، كما شبه الجليس السوء بنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة. قال العلامة ابن عثيمين في لقاءات الباب المفتوح (رقم898): قرناء السوء كالنار تحرق الثوب شيئا فشيئا حتى تأتي إلى الجسد فتأكله. اهـ. وبعد أن عرفنا من هو الصالح، لا بد أن نعرف لماذا نصاحب الصالحين؟ وما هي الثمرة؟ الثمرة أنه يعينك في حياتك، ويكون سببًا في تذكيرك بكل خير، فتفعل الصالحات وتجتنب المنكرات، وهذا ينفعك بعد مماتك عندما تحتاج إلى الحسنات. قال العلامة ابن باز في فوائد من التفسير ص 150: من كان ليس على دينك فهو حري بالعداء والغمار الشر، والإعانة على كل ما يضر. اهـ. وهذا واقع ومشاهد وملموس. فلو سب رجل أباك، هل تصاحبه؟ لا، لأنه يهينك ولا يريد لك الخير! وهنا نفهم عندما قيل لأحد السلف: لماذا لا تنظر إلى فلان واذا مررت به صديت عنه؟ فقال: كيف أنظر إلى من يسب الله وينسب له الولد؟ فشتان بين من يَحذر هذا الصنف وبين من يتخذه خليلًا ويجالسه ليل نهار! قال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا(27)يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا (28) سورة الفرقان. ذكر الطبري في تفسيره بإسناده إلى الشعبي أنه قال في قوله: {ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} قال: كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأمية بن خلف، فأسلم عقبة، فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا، فكفر؛ وهو الذي قال: {ليتني لم أتخذ فلانا خليلا}. اهـ.
وقد يتساءل بعض الفضلاء فيقول: ما الضرر الذي يحصل اذا صاحبت من عادى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: هذه المصاحبة تكون سببًا في العذاب. قال تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النَّار) سورة هود آية 113. قال أبو العالية الرياحي: لا ترضوا بأعمالهم، وقال ابن عباس: معنى الركون: الميل. وأيضًا مصاحبة من حاد الله سبب في الهلاك؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم). قالت: قلت يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: (يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم) متفق عليه، وهذا لفظ البخاري. قال العلامة ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين: وفي هذا الحديث عبرة: أن من شارك أهل الباطل وأهل البغي والعدوان فإنه يكون معهم في العقوبة الصالح والطالح، العقوبة إذا وقعت تعم ولا تترك أحدا ثم يوم القيامة يبعثون على نياتهم، يقول الله عز وجل: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب). اهـ.
وما هي نتيجة من صبر عن مصاحبة جلساء السوء؟ الجواب: يعوضهم الله بالرضا عنهم لما أسخطوا الناس في الله. قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة المجادلة آية22. قال الدكتور عبدالله الفوزان في حصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول ص39: يقول علماء البلاغة: إن النفي أبلغ من النهي لأن النهي متعلق بالمستقبل، والنفي متعلق بالماضي والمستقبل، فيكون المعنى: لا تجد في أي وقت من الأوقات قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله. اهـ. وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره(280/8): وفيه سر بديع، وهو أنهم لما أسخطوا الأقارب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز العظيم والفضل العميم. اهـ. وكان سلفنا الصالح حريصين كل الحرص في اصطحاب الصالحين والجلوس معهم للافادة والاستفادة. وقد أوصانا عليه الصلاة والسلام بوصية عظيمة حين قال: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز». قسم العلماء ما يحرص عليه المرء في حياته إلى ثلاثة أمور: (1) أمور تنفع، وقد حثنا النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك. (2) أمور تضر، وقد نهى الشارع الحكيم عن كل ما يضر، وهذا يدركه المرء بفطرته. (3) أمور لا تنفع ولا تضر، وهذا لا يفعله العاقل إلا بقدر الحاجة، ولا يكثر منه لأنه سبب في تفويت ما هو مهم.
* خريج كلية الشريعة- جامعة الكويت
[email protected]Ashamsalden@