مقال / مهاجرون نحو الموت!
| إبراهيم صموئيل |
1 يناير 1970
07:13 م
مشهدٌ من الصعب أن نألفه ونعتاد على رؤيته: ذلك الزورق المطاطي المحتشد بأجسام بشرية، متلاصقة وشبه متراكبة، بظهورٍ محنية، ورؤوس مطأطئة، أسلم أصحابها أقدارهم للأحوال البحرية، تتدافع الأمواج متلاطمة بزورقهم في ما يمضي بهم وسط الأخطار نحو ما يحمون بالوصول إليه!
المهاجرون غير الشرعيين! بحفنة من دولارات تُدفع لمتخصصين في تهريب «البضاعة البشرية» إلى أي بلد سوى بلدانهم الأم. أي بلد يصير بلدهم حين يصلون إليه ويطلبون اللجوء بأي شكل من الأشكال، وأي ظروف إقامة كانت.
في الغالب ينقلب الزورق بهم ويموتون. عشرات بل مئات المرات صار فيها هؤلاء المهاجرون طعاماً للأسماك بعد أن غرقوا وسط المياه. ورغم ذلك يهاجر العديدون، مرة بعد مرة، وهم على علم مسبق بمصائرهم. على علم ممن سبقوهم إلى الهجرة ولم يحققوا أهدافهم.
أليس من المرعب أن تدفع مجموعات بشرية بأنفسها إلى التهلكة جراء حلم وحيد: العيش في بلدان أخرى غير بلدانهم الأم، ولو على حافة العيش وأطراف الكرامة الإنسانية؟
ما من غرابة في الأمر حين نعاين واقع الظلم والإفقار وانعدام فرص العمل والجوع والمرض في بلدانهم الأم. تلك البلدان التي باتت جحيماً لا يُطاق ولا يحتمل. في ظل ذلك يدفعون بأنفسهم، عبر الزوارق، إلى المجهول التام!
يُفترض أن للبلدان التي يهجرها سكّانها على أجنحة الموت رؤساء وحكومات وبرلمانات. يُفترض أن لديها قوانين وتشريعات. فيها مؤسسات وهيئات ودوائر، غير أنها لا تعدو، بسبب سلطاتها الحاكمة، أكثر من زرائب ربما لا تصلح حتى لعيش الحيوان.
ولأن حالها كذلك يدفع سكانها بأنفسهم إلى المجهول المحفوف بالموت. فهذا على مخاطره يحمل أملاً ما بالحياة، يحمل فرصة ما للعيش، يحمل ممكنات ما هي في البلدان الأم لا تعدو في درجة الصفر: ما من أمل، ولا من فرصة، ولا من ممكن!
في بلدان كهذه ليس أمام عدد كبير من سكانها سوى أن يهاجروا بأي طريقة كانت، وبأي وسيلة كانت، وبأي ثمن كان. وفي بلدان كهذه محكومة بالعسف والقهر والتخلف يصير احتمال الموت غرقاً أشرف من البقاء فيها! تلك هي الآفة الكبرى التي تحكم مواطني تلك البلدان، وإلا فلِمَ يهاجرون، وعلى ذلك النحو المهين للكرامة البشرية؟! أليس لأن العيش في البلدان الأم، وتحت سطوة الجوع والقمع، لم يعد ممكناً؟! أليس لأن الموت بات مشتهى بالقياس إلى «حياة» كتلك التي في أوطانهم؟!
ما من بشري يرتضي هجرة بلده، إلا حين يُصيِّر هذا الأخير مقصلة فوق عنقه! إلا حين يتحوّل إلى كابوس ملازم لسكانه ليل نهار! فاللنباتات والأشجار مواقع نموها، وللحيوانات مواطن تجمّعها وعيشها، ولأحياء البحار أماكن تواجدها.
ليس لأولئك المهاجرين غير الشرعيين من موطن سوى الزوارق التي تهاجر بهم بعيداً، نحو المجهول. ولذا نراهم يهاجرون المرة بعد المرة، ويموتون المرة بعد المرة أيضاً.
هل تلك بلدان محكومة بأنظمة سياسية من أي لونٍ كان، أم هي مجرد سجون تضم نزلاء، وفي أسوأ ظروف اعتقال؟ ما من شك أنها السجون عينها، تلك التي- مجازاً وواقعاً- يسعى نزلاؤها للفرار منها بأي طريقة كانت، وأي ثمن كان حتى لو أودى إلى الموت!