«الراي» تتبعت تجميعها من الحاويات على يد العمالة البائسة ... وحتى مكابس الصليبية «المريبة»
صناعة الكراتين في الكويت ... تجارة من رحم القمامة
| كتب علي العلاس |
1 يناير 1970
09:57 ص
• في المكبس يعمل آسيويون على فرز أطنان الكرتون قبل وضعها في الآلات وضغطها
• ثلاثة مكابس في منطقة الصليبية ومثلها في أمغرة ومكبسان في صبحان
• أحد ناقلي الكراتين إلى المكابس: يفترض على الدولة أن تصرف لنا رواتب لتخليصها من عبء تلك النفايات
• العامل يبيع ما يجمعه بـ 30 فلسا للكيلو ... والوسيط يوصل الطن إلى المكبس بـ 35 ديناراً
• الكراتين تنتقل إلى مكابس منتشرة في أمغرة وصبحان والصليبية قبل أن تأخذ طريقها إلى معامل الشعيبة
من حاويات القمامة في الشوارع إلى المكابس في الصليبية وأمغرة وصبحان وصولا إلى المصانع العملاقة في الشعيبة تبدو صناعة الكراتين في الكويت حكاية مريبة ومثيرة للجدل، قد تحمل خروجا عن التنظيم وربما القانون بمحطاتها الساخنة وتفاصيلها المثيرة للجدل.
«الراي» سبرت أغوار هذه التجارة، وعايشت مشوار أبطالها وجمعت خيوطها وكشفت المستور عن أعين تلك الجهات المعنية لعلها أن تضع لمثل هذه التجارة ضوابط وقواعد تنظمها وتنظم الأطراف المشاركة فيها.
رحلة عناء وشقاء، تبدأ تحت جنح الظلام وتستمر في وضح النهار يبحث فيها الكادحون وعمالة الشوارع عن الكراتين والأوساخ والقاذورات مقابل 30 فلسا للكيلو، ثم تتوقف الرحلة في محطة تجميع الكراتين بواسطة سيارات نقل وصولا إلى مرحلة الكبس في أماكن تبدو غير مخصصة رسميا لمزاولة هذا النشاط وانتهاء إلى المحطة الأخيرة حيث المصانع العملاقة في الشعيبة المعنية بإعادة تدوير الكراتين وتصنيعها.
المحطة الأولى... حاويات القمامة.
بينما كان الهدوء يلف احد الشوارع في ساعة متقدمة من الليل،كان أحد العمال الذي يبدو بزيه من العاملين في احدى الشركات يتوارى خلف حاوية قمامة وبيده يحمل اكياسا بمقاسات كبيرة محاولا جمع الكراتين بأشكالها المختلفة.
بدت المهمة تحمل كثيرا من العناء وسط الاوساخ والاكوام المتكدسة داخل الحاوية المحملة برائحة تقطع الانفاس لكن الاكثر وضوحا ان الهدف كان قاسيا جدا حيث الرغبة بجمع الكثير الكثير من الكراتين مقابل القليل من المال.
اقتربنا من العامل الذي بدا مرتبكا وقال انه يفتش عن الكراتين حتى يبيعها على أحدهم مقابل مبالغ زهيدة جدا فيما كان يرفض الافصاح عن مزيد من التفاصيل بعد ان ذهب مسرعا غير راغب بالحديث.
لكن الامر يستدعي المزيد من البحث،فكانت المحطة الاخرى في مكان آخر عندما لاحظنا رجلا يقضي جل وقته يوميا يقلب رزقه بين حاويات الزبالة الموضوعة أمام أرصفة العمارات السكنية باحثا عن لقمة عيشه في ورق الكرتون لعل وعسى أن يتحصل من وراء بيع حصيلته اليومية لجامعي تلك النوعية التي تصنف ضمن قائمة النفايات مقابل مبالغ قليلة تعينه على شظف الحياة التي يعيشها هو والكثير من أمثاله.
عبدالقدوس لال البنغالي الذي كان منهمكا في تفتيش إحدى حاويات الزبالة واحد من العشرات الذين امتهنوا هذه المهنة التي راجت أخيرا تجارتها على نطاق واسع دون أن يلحظها كثيرون ودون ان يعرفوا المقاصد والأهداف التي تجعل لآل وأمثاله يقضون جل وقتهم بين تلك الحاويات يفتشون فيها عن الكراتين.
ففي ظل درجة حرارة كانت تـقترب من الأربعين كان يجلس (لال ) البنغالي تحت شجرة يستظل بظلها من أشعة الشمس اللافحة يصفف ورق الكراتين الذي جمعه من حاويات القمامة المرصوصة في احد شوارع الفروانية.
وأثناء انغماسه في عمله علت وجهه فجأة علامات الحيرة والارتباك وبدت أكثر وضوحا عندما اقتربنا منه نستفسر عن الدافع الأساسي الذي جعله يمتهن هذه المهنة ظنا منه إنني أعمل في إحدى الجهات الرقابية، فبادر قائلا: « بابا أنا ماكو خراب، أنا ياخد كرتون بس»، بهذه العبارة المقتضبة اختصر ( لال ) الحكاية قبل ان نستفسر منه عن الدافع الذي دفعه للعمل في هذه المهنة والأموال التي يتحصل عليها من وراء هذا العمل.
( لال ) الذي تهللت أسارير وجه بعد ان تأكد من عدم انتمائنا لأي جهة رقابية كان بمثابة طرف الخيط الذي قادنا لمعرفة مصير ورق الكراتين والدوافع التي دفعت العشرات من أمثاله للعمل في هذه المهنة.
(لال... ومشقة جمع الكراتين)
يقول ( لال) بلغة عربية شبه معدومة كهيئته الجسمانية التي بدا عليها « بابا أنا يقعد ممكن 5 أو 6 ساعات يدور على كارتون من هنا وهناك ومن حاوية زبالة وفي الأخير ممكن يطلع كله 50 كيلو بس».
50 كيلو
(50 كيلو بس)، هذا الرقم الذي نطقه ( لال ) فتح لنا نافذة أخرى، وجعلنا نستفسر منه عن السعر الذي يبيع به كيلو ورق الكرتون وعن المشتري وعن أشياء أخرى لها علاقة بهذا الموضوع لدرجة ان الشك بدأ يساوره مرة أخرى بعد ان كان اطمأن لهوياتنا وكأنه كان يريد الخلاص منا بأي طريقة من خلال اجابته السريعة عن تلك الأسئلة التي طرحناها عليه.
« في واحد نفر يجي ( يأتي ) هنا كل يوم ياخد الواحد كيلو بـ 30 فلسا»، اخر جملة شبه مفيدة نطق بها ( لال ) قبل أن يطلق ساقيه للرياح وقبل ان يجيب على النصف الباقي من أسئلتنا، ورغم ثقل حزمة الكراتين التي كان يحملها على رأسه إلا أن عشرة رجال من أمثالنا ربما لا يلحقون به.
تركنا ( لال ) وكدنا نفقد معه الخيط الأول لمعرفة تفاصيل رحلة الكرتون، ولولا الحظ الذي أوقعنا مع محمد أمينول الذي كان يجمع الكرتون من أمام أحد الأسواق الكبيرة لما استكملنا مشوارنا الذي بدأناه مع (لال).
(أمينول... بوصلة الرحلة)
يقول أمينول وهو من بني جلدة سابقه: « كل يوم أجمع ما بين 50 أو 60 كيلو من ورق الكراتين وانتظر صاحب سيارة نقل في هذا المكان (أمام أحد المجمعات في منطقة الفروانية) لكي يزن لي حصيلة ما جمعته ويدفع لي مقابله ذلك فلوس، حيث يدفع لي مقابل الكيلو 30 فلسا».
انتظرنا مع أمينول أمام المجمع قرابة الساعة ونصف الساعة حتى كاد الملل يتملكنا، ولكن في الأخير وصلت سيارة النقل التي كان يقودها شخص ينتمي لإحدى جنسيات الدول العربية وبجواره عامل اسيوي يقوم بتحميل الكراتين بعد عملية وزن تقديرية يقدرها صاحب السيارة.
(سلم واستلم)
على عجالة قبض أمينول ثمن بضاعته وضربها في جيبه، وقبل ان ينطلق كسابقه استوقفناه لدقيقة محاولة منا معرفة المزيد عن هذه التجارة، إلا انه تحجج باللحاق بدوامه في بلدية الكويت، حيث أخبرنا بأنه يعمل في نظافة الشوارع.
(الدليل العربي)
خلال هذه الثواني لم تكن سيارة النقل تحركت بعد من مكانها، وقد سمع صاحب السيارة الذي رفض ذكر اسمه جزءاً من الحديث الذي دار بيننا وبين أمينول، حيث قال لنا « اتبعني بسيارتك وستعرف كل شيء».
بالفعل تتبعنا سيارة النقل التي كانت تقف في نقاط محددة، إذ كان ينتظرها في كل نقطة تقف فيها عدد من العمال وبجانبهم حزم من ورق الكراتين، فصاحب السيارة كان بعد عملية تقدير الوزن يسلم العامل الفلوس ويستلم الكراتين.
ولما شعر صاحب السيارة ان الجولة ستطول قال لنا : «أنتم كما شاهدتم نحن نجمع الكراتين من هؤلاء العمال البسطاء مقابل سعر متفق عليه وانا بدوري اقوم ببيع هذه الكميات الى صاحب مكبس «مخزن» في منطقة الصليبية بسعر 35 ديناراً للطن الواحد.
ويضيف صاحب السيارة : «هناك آخرون غيري يجمعون الكراتين ويبيعونها الى مكابس الورق التي تقوم هي بدورها ببيعها بعد كبسها وتجهيزها في حاويات على مصــانع إعـــادة تدوير الورق».
ويوضح ان مكابس الورق منتشرة في المناطق الصناعية، حيث يوجد ثلاثة مكابس في منطقة الصليبية ومثلها في منطقة امغرة ومكبسان في منطقة صبحان وغيرها العديد من المكابس الأخرى المنتشرة في مناطق عدة.
وقبل ان نقاطع حديثه، قال لنا « يفترض على الدولة ان تصرف لنا رواتب لتخليصها من عبء تلك النفايات».
(مكابس الصليبية)
بعد معرفتنا بأماكن مكابس ورق الكراتين بدأت خيوط الرحلة تتجمع لدينا، لذا تم إعداد العدة وكانت وجهتنا الأولى لأحد المكابس الموجودة في منطقة الصليبة، ومن يعرف الصليبية يعرف ان وصفة الوصول لأحد المكابس التي دلنا عليها صاحب سيارة النقل ليس بالأمر الهين، فلا أسماء شوارع إلا فيما ندر ولا دليل قطع يوضح معالم المنطقة ولكن خبرة قاطني المنطقة الذين سألناهم ساعدتنا كثيرا على تحديد موقع المكبس المقصود.
(كهف مقفر)
طريق الوصول الى المكبس المنشود لم يكن سهلا، فالمحاولات تعددت وفي الأخير وبعد مشقة وصلنا بسيارتنا الى وجهتنا، فالمكان يبدو من الخارج أشبه بكهف مهجور، الصمت المطبق كان سيد الموقف، ورغم حالة الخوف التي انتابتنا قررنا الاقتراب من مداخل المكبس التي هي في الأصل بلا أبواب.
عندما اقتربنا وجدنا فقط اكوام من الكراتين ربما تكاد تلامس سقف المكبس دون وجود أي أثر لأي عنصر بشري، لدرجة اعتقدنا ان المكان مهجور بالفعل، ولحظة خروجنا لمحنا عاملا بنغالي يقف أمام احدى البوابات في الناحية الأخرى فذهبنا إليه للاستفسار منه فوجدنا بمقربة منه عدد من العمال البسطاء يعملون بصمت في فرز أطنان الكراتين، حيث كان عددهم لا يتجاوز 6 عمال وبجانبهم آ?ت الكبس والتجهيز.
وعندما طلبنا من الشخص الموجود امام البوابة وكان يدعى كومار بالسماح لنا بالدخول لموقع العمل رفض بحجة عدم امتلاكه صلاحية القرار، حيث طلب منا مقابلة مدير الموقع للاستئذان منه، في تلك اللحظة لم يكن أمامنا سوى الموافقة على طلب كومار، وبالفعل اتجهنا الى مكتب مدير الموقع وهو عبارة عن غرفة صغيرة ملحقة بورشة العمل، وهناك تعرفنا على مدير الموقع محمد شاهين.
بعد عملية شرح لم تستغرق سوى دقائق معدودة استوعب شاهين فكرة موضوعنا وسمح لنا بمقابلة العمال داخل موقع العمل، حيث كان الجميع يعمل بصمت في فرز الكراتين.
ويقول أحدهم : نمضي هنا في عملنا ما بين 8 و 9 ساعات في فرز الورق وكبسه ووضعه في الحاويات ويتقاضى الواحد 90 دينارا.
(ضجيج الماكينات)
وبقدرة قادر وبعد تشغيل ماكينات الكبس تحول المكان الصامت المقفر إلى ضجيج يكاد يخرم طبلة الأذن من شدة حدة أصوات تلك الماكينات، حيث طلب منا ( شاهين ) مغادرة الموقع حتى لا يتعرض أحد لآذى.
وعندما حاولنا ان نعرف السعر الذي يدفعه المصنع مقابل طن الكارتون، قال ( شاهين) ان صاحب المكبس هو الوحيد الذي يعرف السعر.
وبسؤاله عن المصانع التي تشترى منه أطنان الورق بعد كبسها، قال: «نحن نصرف ما جمعناه من أطنان الكاراتين عن طريق مصنع يعمل في منطقة الشعيبة، ولكن الشيء الذي أعرفه أن هناك أكثر من مصنع يقوم بشراء مختلف أنواع الورق من المكابس المنتشرة في مناطق الكويت لإعادة تصنيعه».
(المكابس... صورة طبق الأصل)
رحلتنا لم تتوقف عن هذا المكبس وإنما شملت عدة مكابس في منطقتي أمغرة وصبحان، حيث تتقاسم هذه المكابس عدة أمور أبرزها ابتعادها عن أعين أجهزة الرقابة.
وبعيدا عن الأهداف البيئية التي يمكن ان يحققها هذا الموضوع (إعادة تدوير الكراتين) والمواضيع الأخرى المشابهة لفكرته، وبعيدا عن غياب رقابة الجهات المعنية بمراقبة العمالة المنتشرة في شوارع الكويت والآثار الاجتماعية السلبية التي يمكن ان تترتب عليها، نقف عند الدافع وراء قيام عمال غالبيتهم من الآسيويين اللجوء الى هذه المهنة رغم ضآلة العائد المالي اليومي الذي يعود عليهم؟ لتبدو الاجابة واضحة جدا...الحاجة وربما احيانا حتى يجدوا لقمة العيش بعدما ثبت ان الكثير من الشركات تتأخر في صرف رواتبهم.
تحسين الدخل
يقول احسان نور وهو أحد العمال الذين التقيناهم أثناء جمعهم الكراتين من حاويات القمامة « أنا أعمل في هذه المهنة كغيري من هؤلاء الذين يحتاجون إلى تحسين دخلهم الشهري، فالمعاش الذي أتـقاضاه من بلدية الكويت لا يكفي وحده، لذا أضطر إلى العمل في هذه المهنة التي توفر لي دينارا أو نصف الدينار في اليوم».
مواعيد جمع الكراتين
يقول أحد العاملين في مهنة جمع الكراتين « عادة نقوم بجمع الكراتين إما في ساعة متقدمة من الليل وتحديدا قبل مجيء سيارات جمع القمامة أو خلال فترة الظهيرة».
أطنان الكراتين
يقول عيد ابوجودة وهو أحد الأشخاص الذين يعملون في وظيفة أمين مخزن لأحد المخازن الموجودة في منطقة أمغرة ان الحصيلة التي تصله من جامعي الكراتين في اليوم الواحد ما بين 10 إلى 12 طنا.
«التجارة» غير مسؤولة عن المكابس
يقول مصدر مسؤول في وزارة التجارة « ان الوزارة غير معنية بموضوع مكابس الورق المنتشرة في المناطق الصناعية، لأن هذه المكابس يفترض ان تتبع الهيئة العامة للصناعة».
ويضيف «ان الوزارة لا تصدر تراخيص إلا لمصانع التدوير والشركات الكبرى العاملة في هذا المجال».