مشهد / في بيتنا... هاتف!
1 يناير 1970
10:17 ص
نعم؛ صدّق أو لا تُصدّق... في بيتنا هاتف!
في يوم من أيام صيف العام 1976، جاء السيد الفني! مندوب وزارة المواصلات إلى العمارة التي كنا نقطن فيها مع والديّ في منطقة الفروانية، وكنا ننتظر على أحرّ من الجمر. جاء ليوصل الحرارة إلى خط هاتفنا البارد ليبعث فيه الحياة. وكان يسير مزهوا ببدلته التي يرتديها (البلسوت) وينظر لكل من يقترب منه شذرا وكأنه يقول لنا: عليكم بحمد الله أن أرسلني لكم لأبعث الحياة في خط هاتفكم.
فأخرج من حقيبته عدته وباشر عمله بتأنّ ورويّة، تُقلب أنامله الأسلاك بحرفية، وبعد لحظات أغلق صندوق خطوط الهاتف ثم قال.. الآن بإمكانكم استعمال الهاتف... مبروك.
وسمع الجيران بالخبر، فهرعوا لبيتنا واجتمعوا عند بابنا، فمنهم من كان مهنئا فرحا بما أغدق الله به علينا، ومنهم من جلس يراقب هذا الحدث العظيم بصمت مطبق، ولا ريب أن البعض قد كان حاسدا وناقما ولسان حالهم يقول: من أين لأبو طارق (كنية والدي) هذه الواسطة الثقيلة التي مكنته من الحصول على خط الهاتف بهذه السرعة، مع أن أبي كان قد تقدم بطلب تركيب الهاتف في العام 1969، أي قبل 7 سنوات من يوم التركيب!
كان الهاتف - الذي أحضره والدي سابقا - لونه أخضر فاتح وبه قرص دوّار، ووزنه يقارب 5 كيلوجرامات. واحتفلنا بحضوره نحن الأولاد احتفالا لا يخلو من المناكفات والمشاكسات، ووالدي بعصبية ينهرنا ويمنعنا من الاقتراب منه.
وحضر الأقارب والخلان المهنئون ليلا، وشاركونا بهجتنا بهذا الوافد الجديد، ووزعنا مع الحلويات؛ رقم هاتفنا على كل من كان لديه هاتف، ومن ليس لديه هاتف.
كانت بهجةً تُثلج الصدر، فلقد دخلت تكنولوجيا الاتصالات الحديثة بيتنا، وصار بالإمكان الاتصال بأي كان في أي وقت. فكل ما كان يتطلبه الأمر تحريك القرص الدوار حسب رقم الهاتف - فيجيبك صوت أبو فلان البعيد على الطرف الثاني.
وصار الحديث عن هاتف «أبو طارق» صُلب حديث دواوين الرجال، ومشاغبات الصغار، وهرطقات المراهقين في حارتنا كلها. وزهونا نحن أولاد «أبو طارق» بهذا الانجاز وأمسينا من نخبة المجتمع نباهي به أمام كل من يُحادثنا بأن في بيتنا... هاتف.
وأعدّت والدتي حفظها الله سلّة جميلة ومزخرفة من القصب، وزيّنتها ببعض الورود الصناعية لتضع فيها الهاتف، فأضْفت السلة مهابة ووقارا على هذا الضيف العزيز.
ولكن شتان ما بين اليوم والبارحة! فاليوم لا تستطيع حتى المقارنة بين ما حدث في بيت «أبو طارق» منذ ما يقارب 40 سنة وما بين ثورة الاتصالات الحديثة. وأستطيع أن أجزم بأن كل إنسان الآن يملك هاتفا نقالا واحدا على الأقل كبيرا كان أو رضيعا. وضاعت مع الأيام بهجة هاتف المنزل حتى فقد بريقه وجاذبيته، وما عاد من مُستعملٍ له إلا نادرا. فهاتفي المنزلي لا يكاد يقرع جرسه إلا مرة واحدة في اليوم ويكون الطرف الثاني دائما أختي.. أختي فقط ولا غيرها.
كان الهاتف يُستعمل للضرورات فقط ويتطلب أن تجلس منتصب القامة مرفوع الرأس قبل رفعك لسماعته وتبادر بقول «ألو» أما اليوم فإن اتصلت على أحدهم يبادرك بقول «ها»، وصارت هواتف هذا الزمان تستعمل لسفاسف الحديث وتوافهه وما عاد له من احترام وصار يستعمل حتى في دور الخلاء!
نعم كان في بيتنا... هاتف
وأما الآن ففي بيتي العديد من الهواتف مثل غيري من الأنام، وكلها تتمتع بالذكاء، بالإضافة إلى الأجهزة اللوحية الأخرى والتي تُجاري الهواتف بذكائها المُفرط مثل الأيباد والأيبود. وصار الهاتف ملازما لنا في كل خطوة نخطوها وشاهدا على سلوكياتنا في البيت وخارجه، ولا تكاد ترى شخصا إلا وأنامله تداعب جهازه بكل حنية ورفق، متنقلا من صفحة إلى أخرى من صفحات الإنترنت.
فقد الهاتف المنزلي بريقه ومكانته، وكما يقال لكل زمان دولة ورجال، وما عاد يتمتع بالصفة التي ذكرها الشاعر والأديب الفلسطيني مريد البرغوثي في روايته «رأيت رام الله» حين قال «بإن تفاصيل حياة كل من نحب وتقلب حظوظهم من هذه الدنيا كانت كلها تبدأ برنين الهاتف» حتى وصل إلى تسمية تأثير الهاتف على مجريات حياتنا بـ «إرهاب التلفون»، الذي حلّت مكانه برامج التواصل الاجتماعي في نقل الأخبار السارّة أو الباعثة على الحزن بسرعة خارقة.
فعلا شتان ما بين العام 1976 والعام 2014، إنها أربعة عقود من الطفرات المتواصلة حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، حتى ستيف جوبز (مؤسس شركة أبل) ما كان يخطر بباله حدوث ذلك أبدا. وما لنا بعد كل هذا النعيم إلا أن نشكر الله تعالى على ما وهبنا، وأن أشكر شخصيا والدي على إدخاله البهجة على قلبي أنا وأخوتي، وأشكر جراهام بيل لاختراعه العظيم، ولا أنسى أن أشيد بالعبقري ستيف جوبز ورفاقه على الهواتف الذكية المعاصرة التي جعلت كوكبنا قرية صغيرة، أو حتى شقة أستوديو في منطقة السالمية.