وثيقة وتاريخ

أسرة الفارس ملاذ الدارس وجمال المجالس

1 يناير 1970 05:45 م
برزت في الكويت أسر كثيرة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع وغير ذلك، لكن أشهر أسرة مرّت في تاريخ الكويت عناية بالعلم ونشراً له واحتفاء بأهله هي أسرة الفارس.

وقد كان لعلماء الفارس مجالس علمية يفد إليها الراغبون من داخل وخارج الكويت، فطنت بذكرهم الآذان، وضجت منهم البلدان.

هذي المكارم لا قعبان من لبن **** شيبا بماء ثم صارا بعد أبوالا

وقد ترك لنا علماء هذه الأسرة وثائق علمية كثيرة، كلها تنبئك عن عنايتهم بالعلم، وسأكتفي بواحدة تكون باباً ندخل منه إلى تاريخ هذه الأسرة ومكانتها العلمية والاجتماعية في الكويت، والتي ما زالت دواوينهم العامرة تجد فيها عبق تاريخ الأسرة العلمي، فرحم الله موتاهم وجعل عقبى الخير في ذراريهم.

نص الوثيقة

بسم الله. جناب الأشم الشيخ مبارك الصباح المحترم، أدام الله له من الأمن والأمان، وجعله مباركا أينما كان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد أدام الله وجودك، فالذي نعرّف به جنابك لا عُرِّفه إلا بخير بأن الحنابلة في مذهبهم واجب عليهم إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان وحال دون مطلع الهلال غيم أو قتر أن يصوموا يوم الثلاثين، فالذي ما يصوم ذلك اليوم منهم يأثم، ويكون مخالفاً للمذهب، والكويت من صارت (منذ نشأتها) الله يعمرها بالإسلام وصاحبها فيها من أئمة المذاهب ثلاثة شافعي ومالكي وحنبلي، والكل لازم أحكام مذهب، ولا تعرض أحد منهم على أحد لكونهم عارفين فضل المذاهب، وأهلها متبعين (متبعون)، وجنابك إن شاء الله ممن يعرف ويتبعه، ودم سالم (سالماً).

الفقير إلى الله محمد بن عبدالله بن فارس

حاكم الكويت أب قبل أن يكون حاكماً

هذه الوثيقة القيّمة تبيّن لنا قوة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الكويت، فالشيخ مبارك الصباح - رحمه الله - يستفتي عالم الكويت فيما أشكل عليه من أمر دينه، وقد كان وما زال لعلماء الكويت حظوة عند حكامها. ومن يقرأ في سير علمائها يدرك ذلك، فالشيخ محمد بن فيروز الوهبي التميمي لازم العتوب في هجرتهم وكان قاضيهم حتى وفاته في الكويت، والشيخ أحمد الفارسي كان تربطه علاقة وثيقة بالشيخ سالم المبارك الصباح - رحمهما الله - قبل وبعد توليه الحكم، وكان لهذه العلاقة الأثر الطيب في عناية الشيخ بالعلم الشرعي، أو في تخفيض الجمرك، ومحاربة بعض صور الفساد في البلاد.

والشيخ عبدالله الخلف الدحيان كان محل ثقة عند حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر - رحمهما الله - وكان يدخل عليه في حوائج الناس ومصالحهم، فيجد أذناً صاغية وإجابة لطلبه، وغيرهم كثير ممن يطول ذكرهم. والمراد أن حاكم الكويت يعدّ عند الكويتيين أباً قبل أن يكون حاكماً، وقد أشار إلى ذلك رحالة عرب وأجانب ممن شاهدوه من تواضع واختلاط كبير بالمجتمع وطيب الناس وتلاحمهم، كما أشار إلى ذلك الرحالة الأميركي لوشر الذي قدم الكويت سنة 1868م، وفليكس جونز الذي زار الكويت سنة 1839م، وغيرهما كثير.

قصة طريفة مع الشيخ سالم المبارك الصباح في مذهب الكويت الرسمي

الكويت تقع ضمن ساحل الخليج العربي الذي تتنوع فيه المذاهب الفقهية، وقد أدى هذا التنوع إلى الاستفادة المتبادلة بين هذه المذاهب، فلا غرابة حينما تسمع بطالب علم حنبلي يأخذ العلم عن عالم حنفي أو مالكي أو شافعي، وهذا هو المنهج السائد عند علماء الكويت قديماً.

لكن المذهب الرسمي للكويت قديماً وحديثاً هو مذهب الإمام مالك - رحمه الله - ومن طريف ما يذكر في هذا الباب أن الشيخ العابد الجليل عبدالكريم الدرويش - رحمه الله - وهو من علماء بريدة، وفيه شدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يكاتب الحكام مناصحاً، فكتب مرة إلى الشيخ سالم المبارك الصباح - رحمه الله - حاكم الكويت آنذاك ينكر عليه أموراً، وأغلظ القول، وختم رسالته بالسؤال عن مذهب الكويت؟! لم يطل الشيخ سالم الجواب، وإنما أخذ نسخة من موطأ الإمام مالك، وكتب على غلاف الكتاب من الداخل «السلام عليكم، هذا الكتاب مذهبنا والسلام»!

الكويتي الوحيد الذي أمّ في المسجد النبوي

والشيخ المفتي المذكور في الوثيقة هو عالم الكويت في زمانه، وناشر العلوم في أوانه الشيخ محمد بن عبدالله بن محمد بن فارس المولود في روضة سدير سنة 1234 هـ، الموافق سنة 1818 م، ونشأ في أسرة كريمة وطلب العلم حتى صار من كبار العلماء، وقدم الكويت سنة 1250 هـ، الموافق سنة 1834 م، فاستفاد الناس من علمه، وقد أوقف أوقافاً على مسجده الواقع في المباركية اليوم.

ولما حج سنة 1892 م وكان عمره ستاً وسبعين سنة، مرّ بالمدينة ولجمال صوته وسعة علمه طلب منه أهل المدينة أن يؤمهم في المسجد النبوي في شهر رمضان فصلى بهم إماماً، فكان الكويتي الوحيد الذي نال هذا الشرف - رحمه الله.

توفي سنة 1909 م، وقد غسله وكفنه وصلى عليه وصية منه تلميذه الشيخ عبدالله الخلف الدحيان - رحمه الله.

الشيخ محمد الفارس... قوة علمية في عبارة سهلة

مسألة ترائي هلال رمضان عندما يحيل دون رؤيته غيم أو غتر من المسائل الخلافية بين المذاهب. ومع أن قضاة الكويت هم السادة العداسنة الشافعية، ومع أن المذهب الرسمي للكويت هو المذهب المالكي، إلا أن الشيخ مبارك الصباح - رحمه الله - يستفتي عالم الكويت الحنبلي، وهذا يدل على المرونة في الأخذ بالمذاهب، كما أنه يدل على القوة العلمية للشيخ محمد الفارس، وثقة الحكام والمحكومين بعلمه ودينه.

ولما أجاب الشيخ محمد الفارس - رحمه الله - عن سؤال الشيخ مبارك لم يسرد له الخلاف ويسرد أدلته، بل اكتفى بوجيز العبارة المتضمنة للمفردات العامية القريبة من النفوس دون إخلال باللغة أو الإيراد الفقهي، وهذه طبيعة العلماء والقضاة في ذلك الوقت، والتي ما زالت موجودة إلى يومنا هذا من تقريب العلم لعامة الناس، وترك التفصيل للمجالس العلمية الخاصة.

وقد ضمن الشيخ الفارس جوابه التذكير بتنوع المذاهب بين أهل الكويت من دون إنكار أحد منهم على أحد، فخلاف الأمة رحمة، وتنازعهم شقاق ونقمة.

وقد خلدت الكويت ذكره بإطلاق اسمه على الشارع الممتد من شارع دمشق بين منطقتي الصديق والسلام.

فارس عبدالرحمن الفارس ابن الأسرة النجيب

وقد حفظ سيرة علماء الأسرة وجهودها في خدمة الكويت ابن الأسرة النجيب ومؤرخها ومفيد المجالس الأستاذ فارس عبدالرحمن الفارس في كتاب نفيس نقلت طرفاً منه هنا، فشكر الله ما في كتابه صنع، وما أتحف فيه وجمع.