رؤى / الصمت... لسان العقلاء

1 يناير 1970 07:22 ص
ميل الإنسان للمباهاة وإظهار نفسه بامتلاك المعرفة ومخزون الأسرار يدفعه طوعاً لإفشاء كل ما في جعبته والتحدث فيه وإشاعته سواء كان مهماً أو أقل أهمية أو كان خطيراً أو ضئيلاً. نوعية هذا الشخص يصبح كثير الكلام لا يمكن ائتمانه على سر أو حديث أو مجلس، ولا يعني ذلك أن يبقى الإنسان في كل المجالس صامتاً بل المراد أن يتكلم بما ينفع إذا اقتضت طبيعة المجلس الكلام ويبتعد عن الغيبة والنميمة والفحش وعن قبيح وفضول الكلام والإسراف والتبذير في الحديث الذي هو من أسوأ أنواع الإسراف، وإن لم يذكر تحت اسمه، وربما الكثيرون لا يدركون ذلك، ولكن تبقى الظروف المحيطة بالفرد هي من تتحكم بأولوية الصمت أو الكلام، في وقت لا ريب أن الصمت أكثر إفادة واستفادة من ثرثرة الكلام غير المفيد. قال الحكماء عن الصمت الكثير باعتباره من فضائل الأخلاق وعلى رأس تلك الحكم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع لا يصيبها إلا مؤمن: الصمت وهو أول العبادة)، وقول علي بن أبي طالب عليه السلام: (الصمت آية النبل وثمرة العقل) و( أكثر صمتك يتوفر فكرك، ويستنر قلبك، ويسلم الناس من يديك) و(الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها الصمت والعاشرة قلة الكلام)، وقال في وصفه للمتقين في نهج البلاغة: (إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته)، وقال في صفة المؤمن: ( كثير صمته، مشغول وقته)، وقال لقمان: (الصمت زين والسكوت سلامة/ فإذا نطقت فلا تكن مهذارا). الصمت زين العلم وعنوان الحلم وله فوائد كثيرة قد يجهلها الثرثار، فالصمت يحفظ اللسان من الآفات ويعلم حسن الإستماع الذي يفتقده الكثيرون ويولد الإحترام بعكس الصراع والجدل الذي يولد التنافر والحقد ويكسب المرء الكرامة ويورثه السلامة ويريح النفس من المتاعب والهموم والمشاكل ويتيح له عدم التسرع في إطلاق موقف محدد حيال قضية ما. ونحن نعيش زمن الانفلات والفوضى الذي يغيب فيه دور المنيرين الصالحين ويختلط الصالح بالطالح يلتزم أهل المروءة الصمت لأنهم يرونه روضة الفكر ويمنح طاقة قوية للتفكير بعمق والتركيز بعقلانية، ولغة لا يتقنها الكثيرون إلا من يفهمها وهو أبلغ لغات العالم وبه يتقي المرء شر السفيه ويشفي من داء الغيبة والنميمة ويسبغ صاحبه بنعمة الصبر والحكمة فالصمت صانع الحكماء وطلقة رصاصة حين يدير الفرد وجهه أمام الجماعة عن فئة معينة من البشر فتجاهل الصامت للرد على التصرفات المؤذية والكلام المؤذي ليس للنيل منهم بل هي وسيلة لحماية النفس من السفاهة ومن التكلم في ما لا فائدة فيه التي يظنون أن الصمت ضعفاً أو تكبراً وغروراً ففي النهاية هذه النوعية من البشر تستحق التعاطف معها لأنها تؤذي نفسها بعقدة النقص والحسد والغيرة وفي النهاية الإسراف في الصمت أجمل من آفة الثرثرة.المرء مسؤول عن كل لفظ يخرج من فمه، ومن أراد أن يسلم من سوءات لسانه لا بدّ له أن يعتاد في البداية على قلة الكلام ويروض نفسه على ذلك ليتعود على الصمت والإستفادة من الوقت، ومن ثم يتخير الوقت المناسب للكلام فالكلام في غير حينه لا يقع موقع الانتفاع به وأن يكون الكلام لداع يدعو إليه إما في اجتلاب نفع أو دفع ضرر وأن يقتصر منه على قدر حاجته وما يحقق الغاية أو الهدف ولا يتكلم إلا لينفع بكلامه نفسه أو غيره أو ليدفع ضُرَّا عنه أو عن غيره ويختار اللفظ الذي يتكلم به ولا يبالغ في المدح ولا يسرف في الذم ويقطع كل الأسباب الباعثة على سوءات اللسان كالغضب والحسد والغيرة والغرور. طبعاً أن كل ذلك لا يتحقّق دفعة واحدة، فتحصيل الصمت يحتاج إلى التجربة والتجربة تفتقد إلى زمن وإلى إصرار وثبات وصمود ومراقبة النفس وعبر المران والترويض، ويبدأ بالقليل ثم يزداد شيئاً فشيئاً، ومع مرور الزمن تصبح الحالة ملكة عنده، وإذا وفق الفرد إلى بلوغ تلك الفضيلة سيشعر حينها كم من كلمات ذهبت هدراً بلا نفع له ولا للآخرين.

* كاتبة كويتية