نافذة / ما أضيق العيش لولا فُسحة الأمل

1 يناير 1970 03:03 ص
هذا العنوان الذي يبعث على الأمل قد اقتبسته من قصيدة شعرية للشاعر مؤيد الدين الحسين الشهير بالطغرائي والتي يقول في مطلعها:

حُّبُّ السلامة يُثني هَمّ صاحبه

عن المعالي ويُغري المرء بالكسل

فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا

في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل

حتى يصل إلى:

أعلل النفس بالآمال أرْقُبها

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

ولقد تذكرت بيت الشعر الجميل والمعبّر هذا عندما كنت في مقر الهيئة العامة للمعلومات المدنية صبيحة أحد الأيام. وكان يوم ثلاثاء، يوما جميلا يمتاز بطقس ربيعي أكثر من رائع، فكأني كنت في جنة من جنان الخلد، فالنسيم عليل يشفي من الأسقام، والشمس جميلة ومشرقة ترسل شعاعها الذهبي الدافئ على الأرض ليبعث الأمل في كل نفس. وبعد أن وصلت لمقر العمل بدأت أدور كما الماكينة واندفعت على العمل اندفاعي المعتاد. والحق يقال اني أحسست بجمال يومي ولكني لم أشعر به في أعماقي ولم أتلمس روعته المطلقة. وفي منتصف ذلك النهار تذكرت أنه لا بد أن أذهب لإتمام إجراءات إصدار بطاقتي المدنية من الهيئة العامة للمعلومات المدنية الكائنة في منطقة جنوب السرة، فأصابني الكدر والتشاؤم لعلمي المسبق بالازدحام الشديد وعدد مرتادي الهيئة المهول.

وعند وصولي كان ما توقعت فأفواج البشر تفد على الهيئة زرافات ووحدانا ومن كل جنس ولون وطائفة وملة، ناهيك عن الذين يخرجون من الهيئة بعد اتمام معاملاتهم. آلاف من البشر تعلوا وجوههم كشرة وملامحُ من غضبٍ وعدم الرضا...حتى قبل دخولهم!

فتهيأت نفسيا مثلهم فقطّبت حاجبي وانطلقت مسرعا مقبلا غير مدبر، وما أن وصلت لقسم الاستقبال حتى يسر الله أمري فلم أنتظر سوى دقيقة (أقل أو أكثر ) واستقبلتني موظفة يعلو ملامحها الوقار والطمأنينة، وأنجزَت معاملتي في أقل من دقيقة مصحوبة بابتسامة أقل ما توصف بأنها صدقة بحقي مصداقا لما قاله رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم «تبسمك في وجه أخيك صدقة». شكرتها وعدت راجعا لمركبتي أرثي لحال من بقي خلفي، وما أن هممت بمغادرة المبنى من بوابته الخارجية حتى استوقفني شيخٌ وقور بلباسه الوطني ويبدو في أواخر عقده السادس وتعلو وجهه لحية خالط بياضها الشديد بعض السواد وقال لي وهو يحمل قنينة رش في يده: يا بُني أقبل

فأقبلت

قال: افتح يدك

ففتحت (استسلمت لا إراديا لأمره)

وساعتها قام برش بضع رشات من العطر على يدي وقال: في أمان الله

فعاجلته: جزاك الله خيرا.

وبعد خطوتين أو ثلاث خطوات شممت يدي وكانت المفاجأة بأن شذا العطر الفواح يخطف الألباب. رائحة جميلة وقوية ارتعش على إثرها جسدي كله، وشعرت بنشوة لم أشعر بها منذ زمن... كأنني كنت في غفلة، أو غيبوبة طويلة؛ فأيقظني منها.

يا لهذه اللفتة، شيخ جليلٌ يقف هنا على هذه البوابة وهو بهذا العمر المتقدم والوقار الذي يفرض الاحترام لينشر شذا عطره على الناس بحثا عن الأجر ورسم البهجة على شفاهم. بريق من الأمل أعطانيه هذا الملاك المُرسَل من الله سبحانه وتعالى، فلقد أنعش يومي وزادني إدراكا لنعم الله جلت قدرته، فأسعدني سعادة غامرة تغلغلت في شراييني، ووجدتني أبتسم من داخلي قبل أن ترتسم البسمة على شفتاي.

إنها نفحة من نفحات الكرم الإلهي سخرها لنا عبر أحد عباده الصالحين، ودرسٌ تعلمته أن أغدو في يومي متفائلا مستعينا بالله، وأن أعقل وأتوكل والرزق على رب العباد، إن كان مالا أو جاها أو سلطة أو عِلْما.

نعم لا شك في أن بريق الأمل الذي يلوح لنا في حياتنا اليومية هو الدافع الذي يعطينا القدرة على العطاء والاستمرار في النجاح والتميز.

فأيامنا تمر سريعا لا نكاد ندركها، فما أن يبدأ يومنا حتى ينقضي. وتزداد وتيرة العمل يوما بعد يوم وتزداد ضغوطه أكثر فأكثر حتى انغمسنا فيه مما أفقدنا القدرة على التواصل الإيجابي مع الناس وأفراد الأسرة والأصدقاء.

وزاد مع ضغط العمل فقدان الإحساس بالأمان والجمال والرضا. وبدأت الدنيا تسودّ في وجوهنا فلا نرى إلا ما يُكدّر صفونا ولا نذكر إلا القصص الحزينة والبائسة وقليلٌ ما تجد أحدهم يذكر قصة نجاح لأحد من معارفه أو يسرد على مسامعنا ما يبعث على الأمل إلا من باب الحسد أو الغيرة.

وقديما قالوا كن جميلا ترى الدنيا جميلة، فكم من بارقة أمل تلوح لنا مع إشراقة شمس كل يوم ولا نلتفت لها ولا حتى ندركها، وإن لفتت انتباهنا فاننا ننصرف عنها لآلامنا اليومية.

ولكن ومع كل هذه السوداوية التي نراها في عيون الناس وقلوبهم وتشاؤمهم المطلق وأقنعتهم المزيفة التي يرتدونها لتخفي حقيقتهم، فلا بد أن نشير إلى ضرورة إعادة برمجة تفكيرنا وسلوكياتنا لنستطيع التغلب على هذه الظواهر السلبية التي اجتاحت مجتمعاتنا.

وقد أكون أحد أولئك الأشخاص الذين عانوا ولعقود من التشاؤم، والذي معظمه كان مكتسبا ممن حولي، والذين كانوا يكرهون حتى أنفسهم، ويعلّقون فشلهم دائما في الحياة على الآخرين. كانت هذه الرِّفقة مثار حنق شديد لديّ على نفسي أن سمحت لهم بأن يضموني إلى داخل دائرة الظلام خاصتهم.

ومنذ ذلك اليوم الذي استعدت فيه قراري وعُدت إلى صوابي، عاودت الكَرّة كما سلف من ماضي الأيام في قراءة الكتب الخاصة بتنمية الذات وشحذ الهمم، وتلك التي تبعث على الأمل والتفاؤل ومنها على سبيل المثال،كتاب «أراك على القمة» للكاتب الأميركي زيج زيجلر وكتاب دييل كارنيجي «كيف تؤثر على الآخرين وتكتسب الأصدقاء» وكتابان رائعان للدكتور سعد سعود الكريباني وهما « قصص أعجبت طلابي» وكتاب «كيف أصبحوا عظماء» وغيرها العشرات من الكتب.

ولقد شكلت هذه القراءات رصيدا كبيرا لديّ من التفاؤل والأمل بالمستقبل الذي لم نشهده أو نكتبه بتجربتنا بعد، وأن نتعلم من الماضي أليما كان أم جميلا، وأن نتغلب على آثاره التي تدمرنا إن بقينا داخله.

فلله درك يا شيخنا الجليل على هذه البسمة التي رسمتها على قلبي، فجزاك الله عني وعن غيري خير الجزاء ورزقنا أمثالك في كل مؤسسة ووزارة أو دائرة حكومية.

[email protected]

twitter: @zoodiac100