وثيقة وتاريخ
قضاء العدساني... فخر تذاكره القاصي والداني
1 يناير 1970
04:44 ص
ارتبط اسم العدساني بالقضاء في الكويت، ومكث أهل الكويت لا يرددون كلمة القضاء عند الرغبة في الفصل بين الأموال وغيرها، وإنما يذكرون اسم العدساني فحسب. فالمئة والستون سنة التي ظلت أسرة العدساني الكريمة تقضي فيها في الكويت، جعلتهم محل ثقة الحكام، ورضا المحكومين، بل كانت الوثيقة العدسانية تُعدّ حكماً نافذاً وشهادة معتبرة، وقد صارت اليوم وثيقة تاريخية مهمة، بل لا يوجد اليوم في تاريخ الكويت ما يوازيها قوة في إثبات الحقوق ودفع الإشكال.
هل في البحرين عدساني؟!
ومن طريف ما قرأته في هذا الباب، ما ذكر عن أحد أهل الكويت أنه سكن البحرين فترة، وجرى له فيها نزاع مع بعض أهل البحرين، فترافعا إلى قاضي البحرين، فلما رجع إلى الكويت بعد ذلك وحدث أصحابه بخبر منازعته في البحرين قال: «ثم تخاصمنا إلى عدساني البحرين، ظناً منه أن العدساني لقب يطلق على كل من تولى القضاء، ولو في غير الكويت!».
هل العداسنة أشراف؟!
الشريف، وهو لقب كان يطلق في الصدر الأول على كل من كان من آل البيت علوياً كان ام جعفرياً أو عقيلياً أو عباسياً. ومن قرأ في كتب التراجم كـ «تاريخ الإسلام» و«سير أعلام النبلاء» للذهبي وغيرهما وجد فيها: «الشريف العلوي»، «الشريف العقيلي»، «الشريف الجعفري» و«الشريف العباسي».
وقال ابن حجر: «الشريف ببغداد كل عباسي، وبمصر كل علوي».
وفى نهاية القرن الرابع، تغيّر الأمر وحصر لفظ الشريف على كل علوي، حسنياً كان أو حسينياً.
ويستعمل مثله اليوم لقب السيد، فالشريف والسيد كلاهما في معنى واحد، لكن يختلف إطلاقه من بلد إلى آخر.
وعند الأعاجم يطلقون على الشريف الأمير، ويختصرونها مير، أو ميرزا، وفي البحث كلام يطول ذكره.
وأسرة العدساني الكريمة يرجع نسبها إلى عقيل بن أبي طالب – رضي الله عنهما – ابن عم الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – كما ذكر ذلك في كتب الأنساب، وقد قدموا الكويت من الإحساء.
وقد خرّجت الأسرة علماء وقضاة ومربين ورجالاً بنوا الوطن من الصعب حصر أسمائهم هنا.
أقدم عدسانية في تاريخ الكويت
وإذا كانت الوثائق العدسانية تحفظ لأهل الكويت حقوقهم وتوثق لهم تاريخهم، فحفظ حقوق أسرة العدساني وتوثيق تاريخهم من باب أولى.
وبين يديّ وثيقة عدسانية مهمة تُعدّ أقدم عدسانية موجودة، قام الباحث في تاريخ الكويت الأستاذ أحمد حبيب العدواني في عرضها ودراستها، وقد قيل قديماً: «لا عطر بعد عروس»، فسأورد الوثيقة، ثم أذكر ما يتيسر من التاريخ المتعلق بها، ثم أوجز ما ذكره الأستاذ أحمد العدواني، ففي كلامه غنية لكل طالب، وفائدة لكل راغب.
نص الوثيقة العدسانية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ محمد بن محمد العدساني
الموجب لرسمه والداعي لرقمه هو أن الوالد الشفيق المحترم قد وقف وحبّس وسبّل بيته الكاين ملكه في الكويت المحدود قبلة بيت آل عبد الجليل وشمالاً الطريق النافذ وجنوبا بيت آل بن سريح وشرقاً بيت آل ابن مطرود ولامرأه ثاقبه قد وقف وحبّس وسبّل الوالد المذكور أعلاه البيت المذكور بماله من الحدود والحقوق والتوابع واللواحق على ابنيه عبد السلام وعبد الله وعلى ذرّيتهما خاصة ما تناسلوا وقَبِلا الوقف المذكور وتصادقا عليه تصادقاً شرعياً وقفاً منجزاً من تاريخه في حال صحته وطواعية منه وكُلّ أَكِل الجحلتين الحمرا و السَّودا واواني الما أيضا وقف على المذكورين يحكمهم في الوقفيه حكم وقفية البيت المذكور حتى لا يخفى جرا في 29 من رجب الحرام من سنة 1236 من هجرة صلى اللّه عليه وسلم كاتبه محمد صالح.
شهد بما هو مذكور موسى ابن علي ابن حليف
شهد بما هو مذكور هلال بن بطيطه
شهد بما هو مذكور موسى بن عامر
شهد بما هو مذكور خميس بن اسماعيل
وكفى بالله شاهد
• دراسة الوثيقة
بساطة أهل الكويت قديماً
الوثيقة تتحدث عن وقف يقع في مرتفع بهيتة، تحولت البيوت المذكورة فيها في الجهة الشرقية إلى دكاكين.
وما جاء في الوثيقة: «وكل أكل الحجلتين الحمرا والسَّودا وأواني الما أيضا وقف على المذكورين».
ولعلنا نرى هنا بساطة الحياة التي يعيشها أهل الكويت في حينه ومن خلال ما يحتويه بيت القضاة من كفاف العيش الحلال، فقد ذكرت لنا الوقفية جرار الفخار، والمعروفة سابقاً بـ «الجحلة»، والتي يوضع بها بالغالب الأرز والطحين لحفظه من التلف، وأيضاً ذكرت «أواني الما» وكما هي واضحة لنا جميعاً وتعني به أواني الماء، وهذا الوصف يقودنا إلى بساطة العيش في حينه، وبعده عن ترف الحياة.
الطاعون الذي أفنى بأكثر أهل الكويت!
بعد سنين قليلة من هذه الوقفية، وفي سنة 1831م، أفنى مرض الطاعون والذي حلّ بالكويت بغالب عوائل الكويت، إذ لم ينج منهم إلا القليل، وتعد سنة الطاعون من الحوادث المهمة في تاريخ الكويت ولكونها قد قضت على جلّ أهل الكويت في ذلك العام. فيقول مؤرخ الكويت عبد العزيز الرشيد عن تلك السنة: «في سنة 1247 أصيبت الكويت بطاعون عظيم قضى على كثير من أهلها حتى كادت تصبح منه قفراً يبابا لولا المسافرون من أهلها». ثم قال الرشيد «رجعوا إليها، ولكن وجدوا الطاعون قد فتك بكثير من نسائهم فاضطروا إلى استقدام عوضهن من البلاد المجاورة»، إلا أنه ومما يسترعي الإنتباه أن بعضاً من الأسر والأشخاص الموجودين بالوثيقة لا يزال لهم أثر ووجود بالكويت.
وقد صور الشاعر الشعبي سعود بن محمد هذه المأساة بقوله:
شفنا المنازل مثل دوي الفضا **** عقب السكن صارت خلايا مخاريب
واحسرتي ليمن طرا ما مضى **** عصرِ يذكرني الأهل والأصاحيب
ما زال القضاء في الكويت عدسانياً
أما الواقف: فهو قاضي الكويت السابق الشيخ محمد بن محمد العدساني، والده هو قاضي الكويت الثالث الشيخ محمد بن عبد الرحمن العدساني، وأما والدته فهي ابنة قاضي الكويت الثاني الشيخ أحمد بن عبد الله آل عبد الجليل، وقد تولى الواقف القضاء في عهد الشيخ عبد الله الأول من بعد وفاة والده في سنة 1197 هجري واستمر حتى سنة 1208هـ، إلا أنه في ذلك العام تنازل عن القضاء لابن القاضي محمد صالح بن محمد بن محمد العدساني.
وأما كاتب الوثيقة، فهو قاضي الكويت السابق الشيخ محمد صالح بن محمد العدساني، وهو القاضي الخامس للكويت من بعد والده وقد تولى القضاء على فترتين، الأولى من العام 1208 إلى 1225 هجري، والفترة الثانية من العام 1228 وحتى 1233 هجري. وسبب تنحيته عن القضاء خلاف فقهي بينه وبين الشيخ علي بن شارخ والذي تولى القضاء بأمر من الشيخ عبد الله الأول بعد هذا الخلاف الفقهي. إلا أنه ومن بعد وفاة الشيخ القاضي علي بن شارخ ما بين عامي 1227 و1228، عاد الشيخ محمد صالح العدساني للقضاء مرة أخرى بالفترة الثانية، فاستمر بها لمده خمسة أعوام فقط، حتى تنازل عن القضاء في العام 1233 هـ. وعلى ذلك يكون الشيخ محمد صالح العدساني في فترة تحرير الوقف خارج عن القضاء، إذ كان من يتولى القضاء في فترة تحرير الوثيقة أخوه الشيخ عبد الله بن محمد بن محمد العدساني، وهو أحد الموقوف لهم في هذه الوثيقة.
هل كان قضاة الكويت
من العوام؟!
من يقرأ في وثائق القضاء الكويتي القديمة (العدسانيات) فسيجد بساطة في الأسلوب والمضمون، وبعداً عن اختيار الألفاظ المعتمدة في وثائق القضاء الإسلامي القديم أو حتى الحديث في بعض البلاد، بل إن كثيراً من الوثائق العدسانية كانت تضمن المفردات العامة، ولا يلتزم فيها بقواعد النحو والإملاء، فهل هذه دلالة على ضعف المحصول العلمي عند أولئك القضاة؟!
والجواب: لم يكن أهل الكويت في عمومهم ذوي تخصص كبير في علوم اللغة والشريعة، وإنما كانوا مشغولين بطلبهم للرزق في التجارة أو الغوص أو الرعي، وكان أهل العلم في الكويت معدودين لصغر الكويت وقلة سكانها، وكان من أبرز المشهورين في العلم في الكويت من استشرف لمنصب القضاء لأهليته لا لنسبه وهو السادة العدسانيون، وهم متفاوتون في تحصيلهم العلمي، ففيهم الراسخ من العلم، وفيهم من له علم حسن يصلح فيه للقضاء والفصل بين الناس، وليس فيهم من لم يكن من أهل العلم أبداً. فليس منصب القضاء شرفياً أو وراثياً حتى يرضى الناس لدينهم من لا يصلح له، لكن لما كانت أحوال الناس العلمية بسيطة لزم على القاضي أن يراعي ذلك من دون مبالغة فيه على حساب الشرع واللغة. وقد اطلعت على العديد من الوثائق في نجد والإحساء والزبير وغيرها من حواضر العلم في ذلك الزمن، فوجدت أسلوب الوثائق لا يختلف كثيراً عما كان يخطه قضاتنا العدسانيون الذين وثقوا لنا جوانب مهمة في تاريخنا، ولهم علينا دين لم نؤده حق الأداء، فرحم الله أمواتهم وبارك في ذراريهم.