أماكن/ الأزهر... وشيخه (2)

1 يناير 1970 03:30 م
| جمال الغيطاني |
... ولكن القصة الشائعة تتفق مع المضمون المصري القديم، اذ لاحظت أنه ما من بناء مصري، معبد، أو مقبرة، أو منشأة عامة، أو مدينة الا ولا بد أن يكون لها علاقة بالكون، أمران تميزت بهما الرؤية المصرية للوجود، أولا، تحديد الصلة بالكون، ثانيا، تعيين الحدود، حدود المدن، الأراضي الزراعية، الملكية، وأولا وأخيرا حدود الوطن (بمناسبة ما يتردد الآن حول موقف النظام الحاكم في مصر الآن من الحدود، ولي عودة الى هذا الموضوع)، ارتبطت المدينة واختيار اسمها بظهور كوكب المريخ في السماء، ويُعرف في العربية بالقاهر.
ولأنه يبدو أحمر اللون تقريبا اعتبره القدماء، رمزا للحرب، ولذلك سمي مارس، من هنا ارتبطت المدينة بالكون عبر المريخ، وكما جرت عادة المسلمين بدأ جوهر بناء مسجد جامع لأداء فريضة الصلاة وتدارس أحوال المجتمع بكل ما فيه من طوائف. وليكون المسجد الجامع مركزا في اللحظات الحاسمة. اختار الفاطميون اسم (الأزهر)، ربما نسبة الى فاطمة الزهراء التي ينتسبون اليها.
ولكن نلاحظ أن جميع المساجد التي شيدت في عصرهم جرى تسميتها بنفس الايقاع، (الأنور) مسجد الحاكم بأمر الله، و(الأقمر) في شارع المعز. بدأ مركز الأزهر في مسيرته الطويلة عندما أصبح مركزا للدعوة الفاطمية، هذا ما جعله يتميز عن جميع المساجد التي بناها الفاطميون من المغرب الى المشرق.
انتهى حكم الفاطميين وبدأ حكم الأيوبيين الذين قطعوا صلاة الجمعة من الأزهر ونقلوا المركز الى جامع الحاكم واستمر الحال هكذا نحو قرن من الزمان، ومع تولي الظاهر بيبرس أولى الأزهر عنايته، وزاد في أوقافه وعمارته، وشيئا فشيئا بدأ الأزهر يحتل مكانة المرجعية الأولى للعالم السني، وهكذا تم ارساء أولى قواعد عالميته، بدأ شيعيا واستمر سنيا، أي أنه بتاريخه الممتد جامعة علمية، عالمية للاسلام كله، ولكنه لم يكن منعزلا عن حياة الوطن الذي تأسس فيه.
في عام 1956 توالت الأحداث الكبرى، تأميم القناة، التدبير للعدوان من بريطانيا، فرنسا، اسرائيل، وبدأ الهجوم بالفعل على سيناء وبورسعيد، كان ذلك نهاية أكتوبر وبداية نوفمبر، وأنني لأذكر تلك الروح التي سرت في مصر، هذه الروح الكامنة التي تسكن طويلا ثم تندلع كبركان هادر فيتغير كل شيء، تدفق المصريون الى لجان المقاومة الشعبية، وفي ميدان الحسين وقفت عربات الجيش توزع بنادق (اللي انفيلد) انجليزية الصنع، قديمة الطراز على المواطنين بضمان البطاقة.
في أول جمعة بعد بدء العدوان قرر جمال عبدالناصر توجيه رسالة الى مصر والمصريين، الى العرب، الى العالم، واتجه الى الأزهر، لا أدري مَن اختار مَن؟ هل اختاره الأزهر أم أنه هو الذي قرر ودبر؟.
كان ناصر يسلك درب الآباء والأجداد ويتجه الى أقدس مكان في مصر ليعلن ارادة مصر، الجهاد في مواجهة العدوان، في ذلك اليوم اتجهت بصحبة الوالد الى الأزهر، بعد أداء صلاة الجمعة صعد جمال عبدالناصر المنبر العريق الذي وقف عليه شيوخ الأزهر العظام ليعلنوا الجهاد في مواجهة العدوان، حملات الأجانب ضد الشرق وفي القلب منه مصر، لويس التاسع الذي ارتد مدحورا بعد أسره في المنصورة، التتار، المغول، العثمانيون عندما لاح خطرهم، الفرنسيون وأخيرا الانكليز.
كان عبدالناصر يتبع خطى الأسلاف، لذلك قصد منبر الأزهر، تماما كما كان المصريون يفعلون ويقدمون، اذا هددهم العدو الأجنبي يتجهون الى الأزهر، واذا أفرط الحكام في الظلم يتجهون الى الأزهر، واذا قرر الأزهريون دعوة الناس الى الثورة يصعدون المآذن ليقيموا الأذان في غير أوقات الصلاة فيتدفق المصريون تلبية للنداء.. في ثورة 1919، كان الخطباء يتعاقبون على منبر الأزهر، الشيوخ والقساوسة، برز اسم القمص سرجيوس، بعض الأماكن قدرها أن تكون الهدف والمركز، طوال عمر الأزهر كان مركزا وقبلة للشعب المصري، قبلة علم، وايمان، وكفاح، ستظل صورة عبدالناصر ماثلة في ذاكرتي وهو يصعد المنبر مهيبا بسيطا خلوا من اجراءات الحراسة التي نراها في أيامنا تلك، صوته المتهدج وهو يعلن أنه باقٍ في القاهرة وأيضا أسرته، وأنه سيقاتل، سيقاتل، سيقاتل.
كررها ثلاث مرات، وعندئذ ارتفعت أصوات المصلين وكل الموجودين، وكانت اللحظة كلها مشتعلة بالرمز، بالتاريخ، مجسدة قدر الأزهر ومكانته، ومن حسن حظ المكان العتيد، قلعة العلم والدين، أن الله يسر له هذا العالم الجليل الذي شهد الأزهر على يديه نهضة كبرى وبدأ بجهده وايمانه يستعيد مكانته.