في مثل هذه الأيام قبل ثلاثة أعوام، في الثاني من يونيو تحديدا، أُستشهد سمير قصير. أُستشهد من أجل استقلال لبنان أولا، ومن أجل فلسطين وسورية التي كان يعرفها جيدا، ومن أجل كل العرب، وكل ما هو عربي بالمعنى الحقيقي للكلمة. أُغتيل لأنه عربي منفتح، كان يريد الخير للبنان وسوريا وفلسطين، وللبنانيين والسوريين والفلسطينيين. أُغتيل لأنه كان يرفض المتاجرة بلبنان وسوريا وفلسطين، وباللبنانيين والسوريين والفلسطينيين. كان صعبا حصر سمير في بلد عربي واحد. كان نموذجاً للإنسان المثقف المتحرر، الذي أحبّ بيروت وعشقها بصفتها عاصمة العرب وليست عاصمة لبنان فقط. كانت بيروت بالنسبة إليه المنارة التي تجذب الأحرار، وكل ما له علاقة بالثقافة والتقدم والحضارة. كان سمير قبل كل شيء إنساناً شجاعاً، تحدى النظام الأمني السوري- اللبناني في عز سطوته. لم يخف من أحد. لم يتردد في قول ما يجب قوله. كان أكبر من أي جهاز أمني. قتلوه لأنهم جبناء، ولأنه كان أكبر منهم ولأنهم يعرفون أنه انتصر. انتصر بالكلمة، وسينتصر بالكلمة وبثقافته الواسعة التي سمحت له بإستشراف المستقبل. سمير باق لأنه مثل بيروت. سمير انتصر وسينتصر لأن بيروت انتصرت، وستنتصر على الصغار الذين يعتقدون أن القتل يحل مشكلة ويحمي نظاماً، وأن الجريمة يمكن تغطيتها بجريمة أخرى.
عشية اغتياله كان سمير قصير يشعر بأن الانتصار آتٍ لا محالة. كان قارئاً جيداً للتاريخ، لكنه استخف بقدرة أعداء لبنان على الاستمرار في مشروعهم الهادف إلى الاستمرار في فرض الوصاية على الوطن الصغير عن طريق الفراغ. كان يرفض اتخاذ أي احتياطات. توقف عن الاستعانة بمرافق وفيّ يركن له سيارته في مكان آمن. أعتقد أن ربيع بيروت سيعم المنطقة كلها. كان على حقّ. سيعم ربيع بيروت والمنطقة، ولكن بعد الانتهاء من هذا الليل الطويل الذي اسمه مخاض المرحلة الإنتقالية التي دخلها الشرق الأوسط منذ بدء الحرب الأميركية على العراق، تلك التي جعلت الغرائز المذهبية تطفو بشكل أقل ما يمكن وصفه بالبشع. لم تتبخر أحلام سمير قصير، لا لشيء، سوى لأنّ لبنان صمد في وجه حملة ظالمة تعرض لها طوال ثلاثة أعوام بهدف واضح كل الوضوح يتمثل في إعادة عقارب الساعة إلى خلف... أي إلى عهد الوصاية.
آمن سمير قصير بربيع بيروت الذي سيتحول ربيعاً عربياً عاجلاً أم آجلاً. آمن بلبنان. آمن ببيروت، وكتب فعل إيمان بها هو «قصة بيروت». أدرك باكراً أن نظام الوصاية راحل، وأدرك على الفور المعنى العميق لأستشهاد الرئيس رفيق الحريري، وأن دم رفيق الحريري لم يذهب ولن يذهب هدراً، وعرف خصوصاً نبض الشارع اللبناني، ورغبة اللبنانيين في إستعادة الاستقلال. لذلك كانت الشعارات التي رفعها الذين شاركوا في تظاهرة «الرابع عشر من آذار»، التي أخرجت القوات السورية من لبنان، مستوحاة من شعار «إنتفاضة الاستقلال- 2005» الذي كان سمير قصير خلفه. لعب سمير دورا محورياً في التقاط لحظة الاستقلال الثاني الذي جسدته لاحقاً حكومة فؤاد السنيورة، تلك الحكومة التي حمت لبنان، وحافظت على مؤسسة مجلس الوزراء في وقت كان مطلوباً أن يسقط الوطن الصغير كله في الفراغ.
بعد ثلاثة أعوام على اغتيال سمير قصير، يتبين أن من يقف وراء سلسلة الجرائم التي تعرض لها أشرف اللبنانيين والعرب، على رأسهم رفيق الحريري، كان ينفّذ خطة مدروسة تستند إلى تكريس الفراغ في المؤسسات كي لا يعود هناك لبنان. كان رفيق الحريري باني لبنان الحديث. كان الرجل الذي أعاد الحياة إلى بيروت، وحاول إحياء المؤسسات اللبنانية بعيدا عن الهيمنة الخارجية ولكن من دون الإصطدام بالنظام السوري. على العكس من ذلك، كان يريد الخير لسوريا ولبنان في آن. ولذلك نُسف موكبه. ولذلك أيضا أُغتيل سمير قصير، وبعده جورج حاوي، وجبران تويني. كان مطلوباً بعد اغتيال الحريري تكريس الفراغ. كان مطلوباً منع أي صوت مسيحي أو غير مسيحي من قول كلمة حق. كان مطلوباً، بكل صراحة، إسكات «النهار» وتدجينها على الأقل. وهذا ما حصل بالفعل. لكن اللبنانيين استمروا في المقاومة، فكان لا بد من اغتيال بيار أمين الجميّل، النائب والوزير الشاب الذي استطاع إعادة «حزب الكتائب» إلى المعادلة السياسية اللبنانية، وانتزاعه من براثن الأجهزة السورية. اغتيل بيار أمين الجميل كي تخلو الساحة المسيحية للأدوات السورية المعروفة، التي جيء بها من باريس بموجب صفقة مكشوفة. وأدت هذه الأدوات، التي لعبت في الفترة الأخيرة دور الأداة لدى الأدوات، الدور المطلوب منها بدءا بتغطية الجرائم المرتكبة، وإنتهاءً بالمشاركة في الاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة وسط بيروت خدمة للمحور الإيراني- السوري.
فقد لبنان سمير قصير، وقبل ذلك رفيق الحريري الذي أعاد الوطن الصغير إلى خريطة المنطقة والعالم. استمرت الحرب على لبنان من أجل افراغ المؤسسات وتدميرها، بدليل ما تعرض له الجيش في الفترة الأخيرة، خصوصا مع اغتيال اللواء فرنسوا الحاج مدير العمليات فيه. الآن يكتشف القتلة أن لبنان أقوى منهم، ومن أدواتهم، ومن أدوات الأدوات. هناك من يتابع المسيرة. لا فراغ على الصعيد الوطني ما دام هناك سعد الحريري، وفؤاد السنيورة، ووليد جنبلاط، وأمين الجميل، وسمير جعجع، ونسيب لحود، ونايله معوض، والمفتي علي الأمين، وميشال المرّ، وفارس سعيد، وعشرات السياسيين والرجال الشرفاء المستعدّين لمتابعة المسيرة إلى النهاية... إلى أن تنتصر «إنتفاضة الأستقلال- 2005». هذا الشعار الذي صنعه سمير قصير اللبناني، الفلسطيني، السوري، العربي الحقيقي الحر المستقل، الذي رفض المساومة على مبادئه. سمير باق في قلوب الذين عرفوه عن كثب وعقولهم كونه يمثل المستقبل، مستقبل لبنان المقاوم للفكر المتخلف الأسود الذي كشفته أخيرا «غزوة بيروت»!
ربما أفضل ما قيل في سمير قصير أنه يمثل الحلم المستمر. كان حلما بالفعل، لكنه من الأحلام القليلة التي ستتحول إلى واقع. ما يشهده لبنان حاليا بداية ظهور للواقع الجديد، الذي لن يتبلور قبل مرور أعوام عدة، في شكل صيغة تحافظ على لبنان الحضاري السيد الحر المستقل الذي صمد في وجه حملة عاتية لم بسبق لبلد كبير أو صغير أن تعرض لشبيه لها. كان سمير قصير مؤمن بلبنان وببيروت... كان رمزا للقدرة اللبنانية على المقاومة والصمود، تلك القدرة التي استخف بها النظام السوري، وبعده النظام الإيراني اللذين أُضطرا في النهاية إلى القبول بإنتخاب رئيس لبنان. ما يحصل حاليا في لبنان تطور بالغ الأهمية. أنه بداية تحقيق الحلم، حلم الذين دفعوا الدم من أجل بقاء لبنان.
خيرالله خيرالله
كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن