خواطر تقرع الأجراس / معجم السب والشتم واللعن
1 يناير 1970
01:49 ص
| مصطفى سليمان * |
كنت في مدريد، أزور أخي المقيم هناك، والمتزوج من إسبانية. جاء عديله ليتعرّف عليّ. وقبل مجيئه قال لي أخي: لا تستغرب من أي سؤال من عديلي، وعليك أن تجيبه بكل صراحة، مهما كانت نوعية الأسئلة.
دخل مع زوجته وتبادلنا التحية والتعارف. وبعد بضع دقائق أخرج من جيب سترته دفتر مفكرات صغير. وسأل: ما أبشع ألفاظ السباب والشتائم في لغتكم، وبيئتكم المحلية؟ وما المجال الذي تُستخدم فيه؟ ما أقبح الشتائم المتعلقة بالعرض والشرف والكرامة والعلاقات الاجتماعية، في الأخلاق والدين، وما أشهر أسماء أعضاء الذكورة والأنوثة بمحاسنها ومعايبها، مدحاً وذماً؟
كنت أجيب سابّاً وشاتماً ولاعناً بأقذع الألفاظ مما تحفظه ذاكرتي الفصحوية، ومما ألِفته الأذن من عبقريات لسان الدهماء في الشوارع والأزقة الشعبية.
شعرت أنني كنت أسب وألعن كلَّ من كنت أكتم شتيمته ولعنته في أعماقي. فقد نفّس عن نفسي كبتَها وشعرت أنني ولد شوارع، رُعاعة من الرّعاع. فلا رقيب ولا حسيب. ربما يكون في أعماق كل واحد منا رغبة مدفونة لاقتباس لسان أبناء الشوارع والأزقة، كما يحدث في بعض البرامج الحوارية المُتلفَزة.
كان الإسباني يدوّن بسرعة مذهلة ما يسمعه مني باللفظ العربي، وبالحرف اللاتيني، والمعنى بالإسبانية. كان تارة يبتسم، ثم يضحك، وطوراً ينقلب على قفاه من القهقهة، فلا يتمالك نفسه من هجمة الضحك، ولا نتمالك أنفسنا جميعاً من عدوى الضحك. هذه هي فلسفة الضحك. فالضحك عدوى لا يقدر أحد، مهما اختلفت الأجناس والأعراق واللغات، على كبتها.
بعد تدوين معجم السباب والشتائم واللعنات، دسّ معجمه الصغير في جيب سترته. وعلمت أنه يجمع من كل أجنبي يلقاه معجماً مماثلاً. ثم عرفت أيضاً أنه مولع بتَتَبُّع العلاقة بين اللغة وأخلاق الشعوب.
ومرت الأيام. حتى قرأت سيرة الفيلسوف الألماني نيتشه، مؤلف (هكذا تكلم زرادشت). كان نيتشه متبحراً في علم اللغات. وقد كتب في الموضوع ذاته: تطور العلاقة بين اللغة وأخلاق الشعوب.
هذان الحدثان حرّضا فيّ شهوة (لسان العرب). فكنت أتتبّع تلك المعاني في مظانّها من الكتب التي تصنّف كل ما يخطر على بالك، وما لا يخطر أيضاً. ومن الكتب التراثية التي تخصّصت في معاجم المعاني والتي كنت آنس إليها(المخصَّص لابن سِيْده) و(فقه اللغة وسر العربية) للثعالبي. وروعة هذين الكتابين وأمثالهما، تكمن في التصنيف والتبويب بما يغنيك عن عشرات المعاجم. كذلك عدم الحياء في ذكر أي لفظ، أو تركيب، مما لا تسمح به أي رقابة عربية الآن، لذلك تراني أمتنع عن ذكر الأمثلة هنا، لأنني أعرف أنها لن تُنشّر، وأنني أصلاً لا أقدر على كتابتها بعد أن أطلقت العنان للساني الرّعاعي في مدريد، فنطق بما لا يُباح فاستراح!. وأنصحك أن تعود إلى ذينك الكتابين، وتبحر في أحشائهما، لتلتقط الدّرر الكامنة في أعماقهما. حتى إذا شعرت يوماً بالحاجة إلى السب والشتم واللعن في أي مجال سياسي أو اجتماعي أو إعلامي أو أخلاقي... تجد أنهما يُلقيان إليك بطوق النجاة، فتشعر بالراحة الكبرى بعد قهر الضغط... قبل الانفجار.
*كاتب سوري