مشهد / ميخائيل شيشكين بين سرّ الحياة ... ورؤى الذكريات (2 من 2)

1 يناير 1970 11:52 م
| د. علياء الداية |

إن فلاديمير يصوّر في رسائله كيف تتحول الحياة إلى مجرّد إمكانية هشّة مقابل عبثية الموت وسلطته التي تغطي كل شيء.** فالجنود الشباب لا يموتون نتيجة المعركة والقتال فحسب، وإنما بحوادث عرَضية: انفلات صندوق شحن وسقوطه من شاهق، أو قذيفة غادرة تهوي وسط المعسكر، أو لمجرد تباهي إحدى القوات المتحالفة بقتل المخالفين. ويبحث فلاديمير عن ذاته فلا يجدها إلا في خيال حبيبته، في رسائله يرحل إلى الماضي، بعيداً عن القذيفة التي سقطت قرب زملائه بعد ثوانٍ من مغادرته لهم «سقطت قذيفة حيث كانوا يقفون تماماً. هرعت إليهم. أنا عاجز عن وصف ما رأيت».

يناجي فلاديمير ذلك الزمن الجميل والبيت الريفي الذي شهد لحظات حبّه مع ساشا، هناك حيث تبدو الحياة خضراء بلون الأشجار والأعشاب التي سارا خلالها، وزرقاء بلون البحيرة التي سبحا فيها، وبيضاء بلون الثلج الذي هربا من برودته وصقيعه «لعلّك تذكرين يوم جئت إلى موعدنا عند التمثال بالقرب من صالون الحلاقة. كنت أشعر بوخز في ظهري وقد تجمدت أذناي من شدة البرد الذي لم أعتد عليه. اشتد الصقيع في المساء، ونحن نتنزه ملتفين بشال واحد هو شالك».

يهرب فلاديمير من شروط الحياة تجنّباً للموت، كما هي حالهم في المخيّم، يجلسون في العراء «كان من المستحيل نشر الخيام- ما إن ننصب خيمة حتى تبدأ القنابل بالتساقط. كانت النيران تدار من المدينة»، حتى إنّ سمات الناس الأحياء تغدو لوازم للموت في الواقع واستشراف ما يأتي، فالجدائل الطويلة تتحول إلى مشانق «لقد مررنا قبل قليل بشجرةٍ بعضُهم مشنوقون على أغصانها بجدائلهم المعقودة حول رقابهم»، أما صديقه كيريل فيرى إصبع قدمه مفيداً في حال موته «في إحدى قدميه ظفرٌ نامٍ. وقد قال ذات يوم مازحاً: لعلهم سيتعرفون عليّ، إذا قتلت، بواسطة هذا الظفر، لأني سأكون بلا وجه».

في الحرب يتعرف فلاديمير على الجانب القاسي والأناني من نفسه، على شعوره بالفرح والخلاص لأن الموت أخطأه وأصاب جندياً آخر «إن أكثر ما يثير الدهشة- هو أن كل واحد هنا يأمل أن يعود إلى وطنه سالماً. وأنّ كل واحد، حين يرى آخر، يعرفه، أو لا يعرفه، حدقتاه فارغتان، كامدتان، وجلده بلون الشمع، وفمه فاغر، يقول في سره مبتهجاً رغماً عنه: هو، وليس أنا! إنها بهجة مخجلة لا يمكن قهرها: اليوم قتلوه هو، وليس أنا! أنا اليوم لا أزال حياً!» شعور لا يشترك فيه إلا مع المرضى، كما هي والدة ساشا حين تندب وتتألم، وتحسد الأصحّاء على عافيتهم «أتمدد هنا وأقول لنفسي: ها هي ذي عاملة التنظيف تمسح الأرض. إنها عجوز معروقة الجسد، قوية، تستطيع أن تستمر في مسح الأرض عشرين سنة أخرى. لماذا أصبت أنا؟ لماذا لم تكن هي المصابة؟» فقد كتبت ساشا لفلاديمير عن مرض أمها، وعن معاناتها في رعايتها ومحاولة التخفيف عنها حتى وفاتها، وكتبت له أيضاً عن رعايتها لوالدها ومن ثم رحيله وقد ترك لها دفتر ذكريات هزيلاً.

فلاديمير كان يرى الموت بأم عينه، ويرى الحب بعين الخيال، يعيش لحظته الحاضرة المترقّبة «ساشينكا، يا حبيبتي، أعرف الآن أن الحرب ليست معارك وانفجارات وجراحاً فحسب، بل هي أيضاً ترقّب لا نهاية له وقلق من المجهول وضجر». حاضرُه جحيم الحرب، أما ماضيه فهو جنة الحب مع ساشا، والمستقبل لا قوام له ولا وجود إلا في الخيال ولحظات ما قبل الرحيل يستحضر فيها الذكريات اللصيقة بروحه، وأحبّ الأمور إلى نفسه «والروائح! أيمكن أن تنسى الروائح! أتذكُر الرائحة اللذيذة في مخزن الحلويات؟ الفانيل والقرفة والشوكولاتة وقطع الكاتو الأثيرة لديك، المدعبلة كالبطاطا... انظر، ومجموعة النباتات المجففة هذه، التي كُتب عليها بخطٍ طفلي متأنٍّ: «بودوروجنيك ـ بلانتاغو» هل نأخذها أيضاً؟»

ساشا تطلّ على المستقبل

لقد تغلبت ساشا على فكرة المستقبل، فصنعَته بنفسها وأخذت تعيش داخله في حيلة وجودية، تتخلص فيها من الحاضر الذي استلبها زمناً طويلاً وأخذ رونق روحها وبهاء نفسها. لقد تعبت كثيراً، فبعد الماضي الجميل ووعود الأيام السعيدة الآتية مع فلاديمير، كان واقع رحيله ومقتله في الحرب، وعدم قدرتها على الانصهار في مجتمع قاسٍ وظروف حياة تصادف أن يكون المجتمع بحاجة إليها، وهي لا تجد من يُعينها. لم تكن تدري هل عليها أن تهب الناس القدرة على الحياة أم النكوص عنها، لقد جلسَت إلى جوار سونيتشكا الصغيرة- ابنة زوجها- التي دخلت في غيبوبة الكوما، تناجيها وتوحي لها بأن تساعد نفسها ووالديها فترحل عن الحياة وتغادر عذابها وعذابهم، وفي مرّة أخرى استوقفت فتاة على قارعة الطريق تعاني من الغثيان، وبادرت إلى محاولة إقناعها بالحفاظ على حملها واستقبال الحياة بالعطاء.

عاشت ساشا أخيراً في عالَمٍ يألفها وتألفه، كي تقاوم الزمن والعجز والإحباط وتزيل تساؤلاتها العقيمة «وماذا لو أني كنت- بهاتين العينين، وهذا الوجه، وهذا الجسد الذي ألمحه- مجرد ذكرى من ذكريات العجوز التي سأكونها ذات يوم؟» فهيأت حياتَها الجديدة وصنعت في خيالها ابنةً بيضاء من الثلج، تحاورها وتتجاذب معها الحديث، وتضيف إلى عالمها الصغير المدهش حبيبها فلاديمير، تتحدث عنه وهي في الطريق إلى لقائه «اسمعي، يجب أن أقول لك شيئاً. سنلتقي هناك برجل، سيضع رأسه على ركبتي، فلا تندهشي/ لماذا؟ هل يحبك؟/ يحبني».

«الشيء الوحيد الذي أريده حقاً هو أن أنسى بأقصى سرعة. ولكني مع ذلك سأصف كل ما يحدث هنا. أعتقد أن أحداً ما، يجب أن يحفظ ذلك. ولعلّي لم أوجد هنا إلا لكي أرى وأصف كل شيء. إذا أنا لم أسجّل ما أراه اليوم- فلن يبقى شيء... لماذا أدونه؟ من يحتاجه؟»، يتساءل فلاديمير، ويبدو أن الإجابة ستجد طريقها إلى ساشا، ومعها كل متلقٍ يرغب في معرفة ما يدور على الطرف الآخر من العالم. وكذلك هو القارئ العربي المعاصر الذي يجد في ترجمة الدكتور فؤاد المرعي لهذه الرواية «كتاب الرسائل» عن اللغة الروسية أسلوباً متقناً مرناً يواكب ما في الرواية من عوالم متنوعة وتساؤلات مرهفة وتطلعات إنسانية.

ميخائيل شيشكين: روائي روسي معاصر، عمل في التدريس والصحافة متنقلاً بين روسيا وسويسرا. حازت رواياته جوائز عالمية عديدة، وحضوراً لافتاً لدى المتلقين والنقاد، منها: إسماعيل المحتجز، وشعر فينوس، وكتاب الرسائل.

والدكتور فؤاد المرعي: باحث سوري، وأستاذ في جامعة حلب. له مؤلفات عديدة في علم الجمال ونظرية الأدب والنقد، وترجمات كثيرة عن اللغة الروسية في حقول النقد والأدب والرواية وأدب الأطفال.



* كاتبة وأديبة سورية

* المقال من موقع ميدل إيست أون لاين