فاصلة / وضحك السادات طويلا!

1 يناير 1970 05:06 م
| فهد توفيق الهندال |

في كتابه (تأملات في الإنسان) يخاطب رجاء النقاش قارئه: «يا أيها الإنسان... تعلم كيف تضحك، عبارة قالها نيتشه على لسان زرادشت».** الخطاب موجه للإنسان، على اعتبار أننا طبعا لم نسمع في عالم الأحياء أن هناك حيوانا ضاحكا وناطقا وغاضبا ومتسامحا وكاذبا وصالحا وطالحا غير الإنسان!

عموما، يبدأ النقاش مقاله الخاص بالابتسام مستشهدا بالمصريين القدماء الذين كانوا يقضون نصف عمرهم في الاستعداد للموت عن طريق بناء المعابد والمقابر، وكانوا يستغلون أرقى فنونهم وعلومهم في جعل معابدهم ومقابرهم جميلة، وقادرة على البقاء الجميل ومقاومة الزمن. لكن الغريب في أنهم احتفظوا حتى في تلك الأيام بروح النكتة والسخرية، وقد وصفهم مؤرخ قديم بقوله: «إنهم شعب لاذع القول، روحه مرحة».

وعندما تساءل النقاش عن سبب المفارقة في أن يجمع الإنسان الحزن والفرح معا، يقرر أن الإنسان الحزين ليس إنسانا كاملاً، فالكامل أو الناضج هو الذي يفهم الحياة بعمق. مستشهدا على ذلك بقول الشاعر بيرون: «ما ضحكت على مشهد بشري زائل، إلا وكان ضحكي بديلاً أستعين به على البكاء».

ليذكر النقاش لاحقا أن الابتسامة هي الاكتشاف الذي توصلت إليه النفوس العميقة التي شربت أكثر الكؤوس حزنا ومرارة، وعرفت أن أعظم ما في الحياة هو احتمال الحياة. فالابتسام كما يرى النقاش هو سر الحياة، الترفع عن أذاها، التكبر على مشاكلها، الجهد المتواضع النظيف لوضع الزهور على المقابر، اعتصار المحبة من أشواك العواطف الصغيرة، فهو الاستغناء الجميل والاكتفاء بسعادة الرضا الداخلي وتدريب النفس على الاحتمال.

من هنا إذاً، يأتي فن الابتسامة في حياة الإنسان، في كيفية قلب المشهد المتجهم إلى آخر كوميدي، أشبه بالكوميديا السوداء التي تنال من الواقع عبر الطرفة والابتسامة عليها لا منها. وهنا تكون الابتسامة إهَانة للمصيبة كما يصفها سيريوس، مع أن اسمه يوحي بالجدية لا المزاح!

لهذا كانت النكتة وليدة الواقع البائس والممتلئ بالمآسي، كثورة ضحك واستفزاز للألم لكي يهجر النفس المفعمة بالحياة إلى الأخرى المنهزمة باليأس والإحباط فانتشرت النكات على مختلف المناسبات والمستويات، فلكل حدث نكتته الشاهدة والموثقة، ولكل طبقة نكاتها الخاصة بها.

وعلى ذكر النكت، فللعرب ومنذ القدم علاقة وثيقة بها، فقد قيل: إن المتوكل العباسي رمى عصفوراً فلم يُصبه وطار، فقال له ابن حمدان: أحسنت. فقال المتوكل: كيف أحسنت! قال ابن حمدان مستدركا: أحسنت إلى العصفور!

ولعلنا بدأنا المقال باستشهاد الكاتب رجاء النقاش بقدرة المصريين القدماء على الجمع بين الحزن والمرح، فلي شهادة أيضا بهذا الشأن، متعلق بالشعب المصري القادر على أن يقهر حزنه بالنكتة. فأذكر أنني أحب أن استمع لنكات الجميع هناك أثناء زيارتي لمصر، فمنها ما يخفف أعباء الوقت ويقصر مدة الانتظار. ومادمت بمصر لابد أن تتذكر الكاتب الساخر محمود السعدني وقصة حزب ( زمش). فعندما كان السعدني معتقلا في سجن سياسي دون أن يعرف سبب سجنه أو اعتقاله وجد حوله الكثير من السجناء المنتمين لأحزاب سياسية معروفة، فاستغرب كيف يكون هو الوحيد دون حزب، فقرر تأسيس حزب جديد في السجن أطلق عليه (زمش). وحين كُثر الحديث عنه في السجن، استدعاه مأمور السجن، فذهب إليه محمود السعدني وهو منكوش الشعر مجعد اللحية وثيابه متسخة وممزقه ويرتدي حذاء بسيطا. فسأله المأمور عن الحزب، وسبب تسميته بـ (زمش) . فرد عليه السعدني مع ابتسامة: زمش تعني اختصار لـ (زي منت شايف)، فضحك مأمور السجن وتركه يذهب. ولا أعلم لماذا لم يسم حزبه بالصعاليك عندما بات على تلك الهيئة؟!

لنورد موقفا طريفا لا يخلو من السخرية من الحياة التي تتقلب كل يوم، حدث حينما قابل الشيخ محمد متولي الشعراوي الرئيس أنور السادات في إحدى المرات وسأله الرئيس السابق قائلا: هل صحيح يا شيخ شعراوي أنك لا تجلس على مكتبك في الوزارة وتركت الكرسي الوثير، وجلست على كرسي «خيزران» بجوار الباب؟

فقال له الشعراوي: نعم صحيح، فقال له لماذا؟ فأجابه الشعرواي: حتى أكون قريبا من الباب... وعندما «ترفدني» أجري سريعا... وأحمد الله وأنفد بجلدي. وضحك السادات طويلا.

والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.



* كاتب وناقد كويتي

@bo_salem72