خواطر تقرع الأجراس / التفلسف بين القط الأسود وحليب التيس!
1 يناير 1970
05:59 ص
هل العقل العربي بحاجة إلى الفلسفة؟ لماذا لا يوجد فلاسفة عرب، أو فلسفة عربية؟ أم اكتفى العقل العربي بالتفلسف والسفسطة، مع افتراض أن العقل العربي مازال بخير!
منذ عقود أوصت اليونسكو العالم الثالث بتدريس الفلسفة ونشرها على نطاق واسع. وذلك بجميع فروعها من علم المنطق، وعلم النفس، وعلم الجمال، وعلم الأخلاق.
بل قد تتماهى الفلسفة مع كثير من العلوم التطبيقية والإنسانية، بهدف دراسة الغايات وكيفية تطبيقها، حتى لا تخرج عن نطاق السيطرة البشرية. فهناك فلسفة العلم بفروعه الشاملة. فمن دون البعد الفلسفي والأخلاقي تنطلق العلوم كافة في التطبيقات غير الإنسانية كاستخدام الذرة في الحروب، والغازات السامة، والعبث بالجينات في مجال الهندسة الوراثية في عالم النبات، والحيوان، وغداً الإنسان.
ومن دون الفلسفة الجمالية، وعلم النفس، والمنطق، والأخلاق، تتشوّه النفوس، وتتخبّط العقول، وتنبو الأذواق، ويتلوّث البيان واللسان.
الفلسفة بمفهومها الشمولي يحتاج إليها رجل السياسة، ( تذكّروا مقولة أفلاطون: فلسِفوا الملوك، وملِّكوا الفلاسفة). ويحتاج إليها (العسكرتاريّون)، حتى لا تصبح شهيّة الحرب جيناً وراثياً تتوارثه الجنرالات. كذلك يحتاج إليها رجال الإعلام، وبخاصة المتلفَز. ففضاؤنا مسموم بأشد الغازات سُمّيةً؛ فهناك سارين المذهبية، وخردل الطائفية، و(في إكس) التاريخانية المتعصِّبة. لا بد من فلسفة الفقه الإنساني والأخلاقي، وفلسفة الفقه الجمالي لكل من نذر نفسه للترّهُّب في أديرة، وحوزات، ومراكز بحوث الأديان.
أحاول أحياناً أن أقهر نفسي، وأُغالبها، على الاستماع إلى بعض المحطات الطائفية، فأتوهّم نفسي في ظلمات العصور الوسطى، بين جلّادي محاكم التفتيش، أعيش قضايا خارج العقل والدين، وبلغة سفسطائية، ميتافيزيقية، متشنّجة، مقذِعة لا تليق حتى برجل الشارع. أتحوّل عن المحطة غاضباً حزيناً. أعود إلى برامج ثقافية فأسمع لغة هلامية يريد المثقف من خلالها أن يتثاقف، فيلوي شدقه بمصطلحات ضبابية، تجعل مدير البرنامج يتعرّق حرجاً من توجيه سؤال آخر، لأنه تائه في ضبابيات اللغة المتثاقفة.
تذكّرت كتاب (موقف من الميتافيزيقا) للدكتور زكي نجيب محمود. عدت إلى قراءته ليُبرِّد غيظي. توقفت عند هذه السطور: «قارنْ هذا بكل من العبارتين الآتيتين:
الأولى: إن في هذا الصندوق أربع مشقرات. والثانية: الإنسان حرارة لها زاويتان. تجدْ أن العبارة الأولى غير ذات معنى، لاحتوائها على كلمة « مشقرات «التي لا مدلول لها في ما اتفق عليه الناس من رموز دالّة، فلا يعلم السامع ماذا عساه واجد في الصندوق. والعبارة الثانية غير ذات معنى كذلك، على الرغم من أن كل لفظة منها ذات مدلول متفق عليه، لأن الألفاظ قد وضعت في غير سياقها الذي يجعلها ذات معنى. فماذا أنت صانع بمثل هاتين العبارتين لو صادفتهما في ما تقرأ أو تسمع؟ إنك لن تتردد في حذفهما، أو إهمال شأنهما، لأنه من العبث أن تقف عندهما متفكّراً متدبِّراً».
من هنا تأتي حاجتنا إلى الفلسفة العقلانية والمنطق. فالمنطق واضح، لأن العقل من طبيعته الوضوح، ودعك من مقولة (من تمنطق فقد تزندق). إن علم النفس والأخلاق والجمال عالم من الاتسّاق والعمق، والسّمو، والنّبو عن كل ما هو شاذ، ومنحرف، وقبيح. قال وِلْيَم جيمس عن الميتافيزيقيين الذين يمشون باللغة على حبال بهلوانية: إنهم أشبه بقوم من العميان، في غرفة مظلمة، يبحثون عن قط أسود... لا وجود له. وقال توماس مور صاحب اليوتوبيا عن خبث الفلسفة الكلامية: إنها لا تعود على المرء بفائدة أكثر من الفائدة التي تعود على من يحلب (التيس).
*كاتب سوري