هكذا كانوا... فهل اقتفينا أثرهم؟
1 يناير 1970
03:39 م
في رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الشهيرة إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - وضع عمر فيها دستوراً للقاضي المسلم في نظام القضاء والتقاضي.
لنقرأ نصها لدى عظمة الإسلام، كما سنرى عبقرية فذة وآفاقاً معرفية عند أحد التلاميذ النجباء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عمر بن الخطاب امير المؤمنين الى عبدالله بن قيس أبي موسى الأشعري سلام عليك اما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم اذا اولي اليك فانهم لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.
آس بين الناس في وجهك (اي اعدل)، وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك (اي ظلمك) ولا ييأس ضعيف من عدلك.
البينة على من ادعى واليمين على من انكر, والصلح جائز بين المسلمين الا صلحً احل حراماً او حرم حلالاً.
لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك ان ترجع الى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفه فيما تلجلج فيه صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الاشباه والامثال، فقس الامور عند ذلك، واعمد الى اقربها الى الله واشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقاً غائباً او بينة امداً ينتهي اليه، فان احضر بينته اخذت له بحقه والا استحللت عليه القضية فإنه انقى للشك واجلى للعمي.
فإن المسلمين عدول (هو المثل والنظير) بعضهم على بعض، الا مجلوداً في حد او مجرباً عليه شهادة زور، او ظننا في ولاء او نسب فإن الله يعلم منكم السرائر ودراً (دفع بالبينات والايمان).
واياك والغلق (أي ضيق الصدر وقلة الصبر) والضجر والتأذي للخصوم والتنكر عند الخصومات فان القضاء في مواطن الحق يعظم الله به الاجر ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته واقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تخلق للناس بما يعلم الله انه ليس من نفسه شأنه الله.
فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام.
ان عندي من اليقين انه لو لم يكن من مناقب بن الخطاب (رضي الله عنه) الا هذه لكفته وعد عندئذ من كبار المنظرين والمفكرين والمشرعين.
ولقد كتب هذا العبقري الفذ الى ابي عبيدة بن الجراح رسالة راقية عجيبة مهمة قال فيها: اما بعد فإني كتبت اليك بكتاب لم آلك ونفسي خيراً، الزم خمس خصال يسلم لك دينك وتأخذ بأفضل حظيك:
اذا حضر الخصمان فعليك البينات العدول والايمان القاطعة...
إذن الضعيف حتى تبسط لسانه ويجترئ قلبه وتعهد الغريب فان الطالب اذا حبس ترك حاجته، وانصرف الى اهله وانما ضيع حقه من لم يعرف به، واس بينهم في لحظك وطرفك وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فيه فصل القضاء.
وكان عمر بهذا وضع صفات القاضي من علمه بالاحكام الشرعية والفتوى ثم الفطنة والذكاء والشدة في غير عنف والرقة في غير ضعف وقوة الشخصية وان يكون القاضي ذا مال وحسب.
ويجب على القاضي ان يخلص لله عمله، وان يفهم القضية فهماً دقيقاً وان يستشير فيما اشكل عليه من امور، وان يساوي بين المتخاصمين، وان يشجع الضعيف، وان يوسع صدره، وان يتجنب كل ما يؤثر على القاضي كالرشوة وغيرها، ثم الحرص على الصلح بين المتخاصمين وان يعود دائماً الى الحق ثم تقرير المتهم بريء حتى تثبت ادانته وانه لا اجتهاد مع النص.
هكذا كانوا فسعد العالم بهم وسعدوا هم دنيا وأخرى. فلا اقتفينا اثرهم؟