في الثالث عشر من الشهر الجاري رحل عن عالمنا العربي رجل لم يبخل بعطاء من أجل وطنه وأمته، وهو الأمير الوالد الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح، والذي كان أحد الرواد المؤسسين لدولة الكويت، وواحدا من حاملي مشعل تحديثها في العديد من المجالات، وأهمها الأمنية والدفاعية، والذي اضطلع مبكراً بمسؤوليته في وقت كانت فيه البلاد تضم عاملين من أكثر من 124 جنسية من مختلف دول العالم معظمهم من جنسيات عربية، وعاشت كل هذه الجنسيات على أرضها تحت مظلة آمنة يحرسها الراحل الكبير، ولا يحرسها فقط ولكنه يشارك في إضاءة المكان كمنبر للإشعاع الفكري والثقافي، ليس في منطقة الخليج فحسب ولكن في العالم العربي ككل.
لم يكن رجل الكويت فقط ولكنه كان رجل العروبة أيضاً، فقد حمل دوماً توجهاً عربياً اتسع برحابه الدور، والنشاط إسهاماً، وبالوفاء لقضايا الأمة دعماً، وفي صدارتها قضية العرب الأولى... فلسطين، ففي الكويت، وتحت مظلة الأمن، عاش فلسطينيون وأتيحت لهم فرص العمل وباتت وكأنها وطنهم الثاني، وخرج من بينهم معظم قادة منظمة التحرير ومنهم: أبو عمار، وأبو إياد، وأبو السعيد، وأبو اللطف، وسليم الزعنون، وغيرهم.
ويذكر التاريخ للراحل الكبير أنه خاطر بحياته، ولم يخش المخاطرة ، عندما ذهب بنفسه إلى مواقع الاقتتال الأردني – الفلسطيني إبان «أحداث أيلول» 1970 لإنقاذ حياة أبو عمار وتهريبه عبر نقاط تفتيش الجيش الأردني، ونجحت المخاطرة بخروجه متخفياً في دشداشة كويتية، وليذكر التاريخ أيضاً أنه أنقذ الاثنين معاً: الثورة الفلسطينية بالحفاظ على حياة قائدها، والأردن بنزع فتيل حرب أهلية كادت أن تشتعل إذا ما قُتل أبو عمار.
ولأنه قومي عربي لم يتردد في القبول بالمخاطرة بحياته من أجل قضية فلسطين، وكذلك في رفض استثمار نزيف الخسائر التي عانى منها العراق في حربه مع إيران، كورقة مقايضة لتحريك المطلب الكويتي بترسيم الحدود بين البلدين، وكنت شاهداً على الواقعة. وأذكر أنني قمت في فبراير من عام 1988 بترتيب زيارة لوفد برلماني بريطاني برئاسة النائب المحافظ توني مارلو، وعضوية 14 نائباً من الأحزاب كافة، إلى الكويت والبحرين والعراق، بطلب من مجلس السفراء العرب، وخاصةً من السفير الكويتي بلندن آنذاك غازي الريس، والذي تحملت سفارته قيمة تذاكر سفرهم، وبدأت الجولة بزيارة الكويت ثم المنامة وتم اختتامها في بغداد.
وفي الكويت التقى الوفد الشيخ سعد وكان آنذاك ولياً للعهد ورئيساً لمجلس الوزراء، واستمر اللقاء لأكثر من ساعتين تناول فيهما العديد من القضايا، جاءت في مقدمها القضية الفلسطينية والعلاقات الثنائية، وأثناء اللقاء سأله رئيس الوفد عما إذا كانت الحرب العراقية - الإيرانية تبدو فرصة مواتية للكويت لمطالبة بغداد بترسيم الحدود بين البلدين، فجاء رد الراحل الكبير حاسماً وقاطعاً وهو يقول: «إن العراق بلدنا وشعبه أهلنا، وترسيم الحدود أمر يمكن الحديث عنه بعد الحرب وخروج العراق من محنته».
ثم تابعت والوفد الجولة بزيارة البحرين، حيث التقينا كلاً من أميرها عيسى بن سلمان طيب الله ثراه، ورئيس وزرائها الشيخ خليفة بن سلمان أمد الله عمره، وفي الخامس والعشرين من فبراير 1988 سافرنا إلى بغداد، إذ التقينا الرئيس العراقي صدام حسين، ليعاود رئيس الوفد، وبطلب مني، طرح مسألة ترسيم الحدود عليه، وأجاب صدام قائلاً: «إذا أعطاني الكويتيون ورقة بيضاء لأوقع لهم على بياض بما يريدون فسأفعل».
ونظراً لأهمية ما قاله صدام بالنسبة لي، إذ رأيت فيه بارقة أمل لبدء حل هذه المعضلة، فقد عدت إلى الكويت وطلبت لقاء الشيخ سعد، ونقلت له ما دار من حديث مع صدام، وأكدت له استعداد توني مارلو لمواصلة الاتصال بالجانب العراقي، والحصول من صدام على ما وعد به غير أني لم أتلق منه سوى نفس الرد الذي سبق أن قاله للوفد البريطاني.
وبعد شهرين من هذا الحديث وبالتحديد في إبريل 1988، زار الشيخ سعد لندن، وقمت بالتنسيق مع النواب الذين سبق أن زاروا الكويت لترتيب زيارة لمقر إقامته بالعاصمة البريطانية، وهي التي تمت بمشاركة ثلاثين نائباً من مجلس العموم وعشرة أعضاء من مجلس اللوردات. وبالتشاور مع توني مارلو اتفقنا على إثارة القضية من جديد وإعادة ذكر ما حدث في لقائنا مع صدام، فنظر لي الشيخ سعد وقال: «أعتقد أن ظروف العراق السياسية لا تسمح بالحديث عن الحدود الآن، فالمطلوب هو إنقاذ العراق وإيران من ويلات الحرب، وإيقاف نزيف الدم بين الشعبين المسلمين، والنواب إذا كانوا يريدون أن يفعلوا شيئاً فبوسعهم أن يحثوا إيران على قبول قرار مجلس الأمن بوقف الحرب». وكان يقصد القرار رقم (538) الذي رفضته إيران، ورأيت نظرات النبل في عينيه، فلقد كان بالفعل نبيلاً وهو يرفض مقايضة ظرف معاناة الشقيق بحق في أرض تتناثر عليها جثث شركاء له في الدين والدم والعروبة.
وحتى مع وقوع العدوان العراقي على الكويت عام 1990، وما تبعه من أحداث لم ينس الشيخ سعد الخط الفاصل بين الشعب العراقي وحكومته مؤمناً بأن الأمة العربية لا تتجزأ، وإن تجاوزت بعض الحكومات. وتشهد ذاكرة التاريخ لدوره وبراعته في إدارة الأزمة، وفي بناء شبكة التأييد الإقليمي والدولي لقضية تحرير الكويت، وفي شن حملة إعلامية واسعة لحشد الرأي العام العالمي من أجل مناصرة الحق الكويتي في التحرير، وعندما عاد إلى بلاده عقب إعلان التحرير هتف الناس باسمه بطلاً لمعركة أدارها باقتدار... سياسياً وديبلوماسياً وعسكرياً، ولكنه عندما عاد لم يعد منتقماً، وظل يمد يد العون والمساعدة للشعب العراقي.
لقد كان حب الراحل الكبير لعالمه العربي هو الإطار الأشمل لعشقه ووفائه للخليج، الذي لم يأل جهداً في تدعيم نهضته وإرساء دعائم وحدته، إذ كان له دور رئيس في تأسيس مجلس التعاون الخليجي من خلال جولاته التي بدأت عام 1978، فضلاً عن جهوده في ترسيخ مبادئ التعاون بين الكويت ودول المجلس في مختلف الميادين.
إن الكلمات لن تفي الشيخ الراحل حقه، ولكني أردت أن أقدم شهادة عيان على وفاء وانتماء وصدق مشاعر هذا الزعيم، وعلى ما قدمه لقضايا الأمة التي باتت في حاجة لأمثاله ممن يعشقون عروبتهم، ويهبون حياتهم دفاعاً عن قضاياها ومبادئها، بعدما علا الضجيج، وزاغت الأبصار، واهتزت الأيادي، فتهاوت الإرادات ولانت العزائم، رحمه الله.
د. عمر الحسن
سفير جامعة الدول العربية السابق في لندن ودبلن