د. محمد الرميحي / على هامش الحديث عن تقسيم العراق ... صور كبيرة وأمان مفقود

1 يناير 1970 07:14 ص

 

في الجو السياسي العام، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، يتصاعد الحديث عن تقسيم ما بشكل ما للعراق، كما عرف بعد الحرب العالمية الثانية ثم يفتر الحديث لاحقاً، إلا أن فكرة تقسيم العراق كانت هناك دائماً بسبب عدم قدرة العراقيين على حكم أنفسهم بطريقة سوية، فهم إما تحت مظلة الديكتاتورية أو الدستورية الشكلية. كان الحديث بعد طغيان عصابة صدام حسين، والتسمية ليست مني، فقد كتب الكاتب السياسي العراقي حسن العلوي كتاباً خاصاً سماه «دولة العصابة»، أقول بعد طغيان تلك العصابة تصاعد الحديث عن الحل الحقيقي لمشكلات العراق السياسية المزمنة هو «التقسيم» تحت مسميات مختلفة، منها الفيديرالية أو الكونفيديرالية، أو وما شابهها من تسميات تعني في نهاية المطاف تفكيك الحكم المركزي الذي يتيح التسلط.

بعد سقوط نظام «العصابة» تحول الأمر من حديث إلى واقع، فقد قرر الدستور العراقي الذي توافقت عليه القوى السياسية المختلفة بعد أن وصلت إلى سدة الحكم، أن يكون هناك تقسيم شبه كونفيديرالي خصوصاً في توزيع السلطة والثروة بين المناطق الثلاث الرئيسية في العراق، ويرتبط هذا التشكيل بالعاصمة ارتباطاً وثيقاً في ما يتعلق بالإشراف على الجيش والشؤون الخارجية. إلا أن ذاك الدستور، حتى في صورته الشكلية، لم يجد من يطبقه على الأرض، فلا الأكراد يناسبهم التخلي عن امتيازات كانوا يحلمون بها فحققوها، ولا الشيعة على استعداد أن يتنازلوا عن سلطة انتظروها كثيراً لأعوام طوال، وكان حرمانهم منها سبباً في اضطهادهم في وطنهم، ولا السنة قابلون على أن «تسلب منهم» امتيازات تمتعوا بها أعواماً طوالاً. الصراع على السلطة بين تلك القوى المتنافرة، وحتى في ما بينها وهو أمر طبيعي، بل وقائم بين القوى الثلاث المكونة للنسيج البشري الأكبر في العراق. السنة يختلفون في ما بينهم إلى حد الاقتتال، وكذلك الشيعة. أما الأكراد فقد صفوا اقتتالهم في تسعينات القرن الماضي، وهم يحاولون جاهدين على ألا ترجع الساعة العراقية إلى الوراء.

إلا أن الأطراف الثلاثة في مأزق حقيقي يغطيه اليوم الوجود الأميركي في العراق، وبغير ما يشاع ويروج له فإن الصراع القاتل والمدمر في العراق لم يبدأ بعد، ويمكن أن يبدأ في حال انسحاب مفاجئ وغير مبرمج للقوات الدولية. القوات الدولية في العراق هي ستار يستخدم سياسياً من الأطراف المختلفة حتى يؤجلوا الصراع المقبل، ولا يوجد في الأفق أي تصور لتوافق عراقي، فنقاط الاختلاف أكبر وأقسى من أن تذلل بين الفاعلين السياسيين ذوي المصالح، بصرف النظر عن هاجس ونبض الشارع العراقي النابذ للطائفية.

تُروى قصة من عهد عبد الكريم قاسم، أصبحت من تراث العراقيين النستلجوي، وهي أن الزعيم كان يطوف بأحياء بغداد الفقيرة فوجد دكان خباز يضع صورة ضخمة للزعيم على واجهة مخبزه، ولما اقترب الزعيم وعاين الخبز، قال لصاحب المخبز: «صغر الصورة وكبر الرغيف»!

منذ ذاك الزعيم إلى يومنا هذا ظل حكام العراق مهووسين بالصور الكبيرة الضخمة مقبلين على تكبيرها لزعمائهم، ومدبرين عن توفير الرغيف لعامة أهلهم، لا فرق كثير بين فريق وآخر. إلا إن الزمن زاد في صغر الرغيف فظاظة، فلم يعد الرغيف نادراً، بل وأصبح الحفاظ على الحياة الإنسانية في صورتها المبسطة من الأماني الكبيرة، بل والنادرة في عراق اليوم.

حقيقة الأمر ان قوى سياسية عراقية تقودها نخبة أو شبه نخبة غير قادرة على الحكم والتوافق، الأمر الذي يطرح التقسيم كحل أولي لوقف تدفق نهر الدم في العراق. إلا أن هذا الحل (التقسيم) لن يفيد العراق في المدى المتوسط، فأي تقسيم سيثير من جديد شهوة القوى المتنافرة في الإقليم الأصغر للدخول في صراع بين مكوناته، عمن تكون له الغلبة فيه، في الجنوب حزب «الدعوة» و«جيش المهدي» المرتكز على زعامة مقتدى الصدر، و«المجلس الإسلامي الأعلى»(عبدالعزيز الحكيم)،إذا استثنينا القوى الصغيرة والأكثر شراسة. في الوسط سيندلع صراع بين قوى سنية مختلفة تقليدية وعلمانية وقبلية، وفي الشمال ستعاد ربما على نطاق أضيق صراع الأجنحة الكردية إما بسبب داخلي وإما خارجي، عدا الجماعات الكردية الصغيرة.

إذاً حل تقسيم العراق كما هو مطروح سوف يسبب مصاعب اكبر وأفدح لأهل العراق كما سوف يسبب مصاعب ضخمة لدول الجوار. فهو حل يؤسس  لمشكلات أفدح بعده.

الحل العراقي هو الديموقراطية، غير أنه ليس في متناول اليد اليوم، بل ومتعسر توليده بين القوى القائمة والمتقاسمة النفوذ، بصرف النظر عما يقوله زعماؤها علناً للجمهور، وهو صراع والحق يقال لا ينبع فقط من مكونات العراق، بل ويشارك فيه على الصعيد الفكري والعملي تاريخ من الحشد والتجنيد منذ أكثر من نصف قرن في منطقتنا العربية عن طريق تسخيف العمل الديموقراطي بامتهانه والحط من نتائجه واستخدامه مطية لأغراض شخصية حتى عافته الجماهير وركنت إلى ديكتاتورية بغيضة.

لعل الدرس المهم في ما يحدث في العراق اليوم هو أن الانتماء المذهبي والطائفي والعرقي قشرة يتمسك بها ويختفي خلفها السياسيون أصحاب المصالح الشخصية، مستغلين بذلك سذاجة الغالبية من الناس، وإلا كيف نفسر اقتتال الأكراد في ما بينهم وهم من عرق واحد، واقتتال الشيعة في ما بينهم وهم من طائفة واحدة، واقتتال السنة كذلك في ما بينهم. هذه القشرة تدر فوائد سياسية للمتزعمين والمستفيدين، ولكنها قشرة وإن أتت أكلها لفترة فإن ديمومتها في شك كبير.


د. محمد الرميحي


كاتب كويتي