محمد الوشيحي / آمال / بكاء وبكاء

1 يناير 1970 12:27 م
محمد الوشيحي

كنت أرمي كتبي مباشرة بعد عودتي من مدرستي المتوسطة لأخرج إلى الشارع حافي القدمين بانتظار الفرائس. وفرائسي هي العمال الذين يسوقهم حظهم الجميل للمرور في شارعنا الذي حوّلته إلى معبر رفح! كنت غاية في الأدب في التعامل مع العمال أولئك. كنت أرسل الصخر مجانا لرؤوس العمال المارّين. فقط.

وفي يوم مشهود من أيام الصيف المباركة، لاحت فريسة من بعيد. عامل أفغاني ضخم يحمل فوق رأسه صندوقي مياه غازية أو «سحارات بارد» لأصحابه المنهكين الذين ينتظرونه ليطفئوا لهيب عطشهم بعد يوم عمل مضن... يا ما أنت كريم يا رب. ما هذه الفريسة الرائعة. هذا يستحق أن أقترب منه وأعبث في بطنه بمزاج، لا أن أكتفي بمجرد حذفه من بعيد، فهو لا يستطيع التحرك بسرعة بسبب حمله الثقيل... اقتربت منه، ولا أدري ما الذي حرّك «القومية العربية» في رأسي يومها، فسألته: أنت أفغاني نفر، ليش ما في عربي كلام؟ فرد بدهشة: شنو؟ فغضبت وضربته على بطنه بكل ما أوتيت من قوة قبل أن أشرح له سبب غضبي: «أنت في كويت، أنت لازم كلام عربي فصيح، ما في قول شنو، في قول ماذا»! المشكلة أنني لم أكن أتحدث الفصحى معه. لكنه الإيثار... احمرّ وجهه غضبا، فوضع صناديقه من على رأسه ليمسك بي لكنني هربت ودخلت البيت وأغلق الباب خلفي... راقبته من ثقب الباب، وعندما تأكدت من أنه حمل صناديقه من جديد، ظهرت له مثل إبليس.

تكررت هجماتي على الفريسة «اللقطة» التي لا أضمن تكرارها. كاد يموت لشدة غيظه، وكدت أموت لشدة متعتي... حلّقت في القومية فشرحت له كان وأخواتها وأسرتها الكريمة. أشرح له وأضربه، وأشرح وأضرب. اثنان في آن معا. إلى أن بدأ بالتوسل بعدما عجز عن الإمساك بي، فعفوت عنه بشرط أن يرقص لي بالفصحى (لا أدري كيف تلبستني روح القومية الناصرية بشكل مفاجئ). وأثناء التفاوض حول الرقصة، وفي لحظة من لحظات القدر، خرج والدي، رحمة الله عليه، من المنزل لصلاة العصر في المسجد، فشاهد المنظر المهول: ابنه يعبث في بطن أفغاني ضخم يحمل صناديق فوق رأسه. فاكتشف رحمه الله الخطة، فأغلق الباب. بينما ما زلت أنا في مرحلة التفاوض القومية... وكالعادة، وضع العامل صناديقه ولحق بي، وكالعادة أيضا هربت منه تجاه البيت وأنا أضحك. فراعني ما رأيت... الله أكبر. الباب مقفول يا جماعة الربع. لا إله إلا الله.

راحت القومية لعنة الله عليها وحل محلها الورع والتقوى... الغريب، أن العامل عندما شدني من ياقة قميصي، صرخ بأعلى صوته «آآآآآآآآآه». كان من المفترض أن أصرخ أنا وليس هو. لكنه اعتدى على حقوقي المكتسبة. سامحه الله! كانت لحظة جميلة لا يمكن أن أنساها. كان كلانا يبكي، هو يبكي فرحا، وأنا أبكي... ليس فرحا.

هذه الأيام، أرى المشهد يتكرر... طفل إيراني أرعن، في المرحلة المتوسطة، أمعن في العبث مع مخلوق أميركي ضخم. وقريبا سيصرخ الضخم فرحا بعدما يقبض على الطفل... وسيبكيان... قريبا.


محمد الوشيحي

[email protected]